
الذات المغلولة أو أزمة العلوم الإنسانية في الجزائر
المؤلف:أ.د.عبد اللاوي عبد الله
المؤسسة:جامعة وهران2
للإتصال بالمؤلف: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث:الفلسفة وتاريخ الزمن الحاضر،جامعة وهران2
العُسر الجزائري:
- هل يمكن قيام إمكانية لموضعة الجزائر بإشكالية فكرية؟
سؤال يؤرق المثقف الجزائري الذي يعي أن الجزائر بعطلها هذا تمارس لعبة الإنفلات من مبضعة النقدي والنظري، لأنه بمجرد طرح السؤال سيصادف واقعا جيولوجيا متكلسا يعزف عن كل أشكال الاستعادة العلمية الرصينة، موضعة الجزائر كآفق للفكر وكسؤال حول قضايا: التاريخ-المجتمع-الدولة... لا تعني توسل التكديس النظري فقط، بل تعني كذلك الارتباط الوجداني الذي يعيد للذات انسجامها مع المكان، الجسد والذاكرة، لان السؤال كما يقول أرسطو "لا ينبثق من اندفاع عضوي في النفس ولكنه يتولد من هاجس الأزمة والحاجة الى فك لغزها"، فالمجتمع الجزائري يعيش عسرا في جميع المستويات والمجالات، خصوصا بعد أن وضح الوشم في جزائر ما بعد 1988 جزائر الأسئلة والاستفهام حول قضايا، اللغة-التاريخ-الإسلام السياسي –الدولة والسلطة-طبيعة التوجهات التنموية...الخ.
فتجاوز حالة العسر والعطالة هذه لا تقبل الإختزال والحلول الجزئية، مثلا أن نهتم بالجانب الاقتصادي ونطيح بالثقافي والاجتماعي والعكس صحيح، فالإستفادة لا تكون إلاّ والعناصر مجتمع، ونشخص الأزمة على أساس أنها:"كل" واحد.
فهل يمكن الحديث من واقع لهذه العلوم في الجزائر؟ سؤال مشروع ولكنه ذو محتوى كبير، عندما نحدث زحزحة صغيرة وبسيطة في عنوان مساهمتنا هذه تصبح: واقع الجزائر في البحث الإنساني، الفكري، الثقافي، السياسي، الاجتماعي...بمعنى أن المشاكل والقضايا التي تواجه مجتمعنا أو يصطدم بها في لحظة تاريخية معينة من تطوره يمكن أن نجد لها حلولا في هذه البحوث والدراسات التي تنجز، أي تكون ذات عمق استراتيجي ومستقبلي في آن واحد، يكشف من البنيات الظاهرة والثانوية les structures manifestes et latentes ومتغيراتها للمجتمع الجزائري.
- نتساءل هل يمكن أن يتطور البحث الإنساني في الجزائر بالنظر الى هذا الواقع؟
لا نعتقد أننا في هذه الورقة يمكن أن نجيب على هذا السؤال، لأن إجابته واضحة، وهي النفي-ولكن البحث عن أسباب العسر هي المشكلة- وذلك لوجود شكلين من الاضطهاد والمقاومة بالمعنى الفرويدي، أمام كل سؤال أو خطاب حول الإنسان في الجزائر وهما بشكل مكثف:
أولا: النزعة التقنوية التي أسس لها الخطاب السياسي الشعبوي، بمعنى الإهتمام بالعلوم التكنولوجية والبحث والإطاحة بالعلوم الإنسانية بحجة أنها علوم غير منتجة ولا نستفيد منها في تطور مجتمعنا فماذا جنينا من هذه السياسة؟ بتعبير بسيط: حضور المصنع وغياب الإنسان.
ثانيا: الواقع الذي تغيب فيه حرية الفكر والتفكير، يغيب فيه الاختلاف، واقع لا يمكن أن يتطور فيه أي بحث في أي مجال خصوصا إذا كان بحثا يروم فهم الإنسان في أبعاده الحاضرة والغائبة، باختصار إنه "زمن السلبية المطلقة" كما يسميه الأستاذ على الكنز (1)
هامش الغرب: ما بعد الحداثة والعلوم الإنسانية:
الأصل، الأثر، الإنفصال، الاختلاف... مدارات جديدة وقلقة يمارس من خلالها التقويض والمجاوزة للميتافيزيقا المقاربة ومحاذات، الوراء، الهامش، المختفي الذي كان وراء كل انجلاء.
مجاوزة الميتافيزيقا، الوجه الآخر، الإمتلاء الآخر للمخيال الجديد، ما بعد الحداثة فالميتافيزقا في القراءات الغربية الجديدة لم تكن سوى سجن لحظة ما بعد الحداثة ، لحظة وجدت حريتها في إزاحة الفلسفة من وظيفتها التقليدية، وتعويضها باستراتيجيات جديدة من خلال التأويل والتقويض، التدمير والتفكيك والقراءة... فأضحت الفلسفة بلا موضوع بل انتقلبت لتصبح استراتيجية مصابة بقلق وهوس البحث عن الأصل والمختفي في أفعاله المختلفة، ما لم يولد بعد، ما لم يؤول بعد، ما لم يقرأ بعد، ما لم يكتب بعد، حتى أضحى هذا "البعد" إتيك éthique جديد ينضاف الى الحداثة، فلم تكن هذه الولادة سهلة بل كانت عسيرة، بدأت عندما أعلن العقل الغرابي أن ذاته ماتت فوكو، وعرف أن مجاوزة الميتافيزيقا لا تتم، إلا بمجاوزة كوجيطو الحضور، "أنا أفكر إذن فأنا موجود"، {ديكارت} الى كوجيطو الغياب، "أوجد حيث لا أفكر وأفكر حيث لا أوجد"، {لاكان}. هذا البحث في الغياب لم تتأسس العتبة الأولى منه إلا بعد أن أرسى العقل الغربي ثورات معرفية بدأت من ثورة لغوية فتحت تصور جديد للعلامات يفتح الأفق الى ممارسة التأويل، وثورة استمولوجية أنجبت العقل العلمي الجديد مع باشلار وأصبحت الموضوعية العلمية محدودة بحدود بناء الموضوع العلمي، وثورة على المؤسسة العلمية في حد ذاتها التي تستأثر بالقانون العلمي، لأن ما يميز القوانين العلمية هو منطق الدحض لا منطق اليقين مع كارل بوبير وأن ميتافيزيقا العالم المعاصر هي التقنية كما وردت في تأويل هيدجر، وأن التقنية هي ايدديولوجيته وأن العلمي والايديولوجي متلازمان وبهذا يسجل ما يسميه هابرماس بنهاية نظرية المعرفة، وثورة التحليل النفسي الذي كشف الذات في نصفها الغائب. ورأى بأم الذات بنية معقدة تتفاعل فيها المستويات الرمزية و الواقعية والخيالية. وثورة بنيوية انفتحت على الهامش ترفض مقولات الوعي والهوية والتطابق الى التعدد والتشتت (2) وثورة تاريخية مع مدرسة التاريخ الجديد متمثلة في مدرسة الحوليات مع لوسيان فيفر، وفرنالد بروديل وغيرهم في اقترافهم لاستراتيجيات جديدة لفهم التاريخ والفضاء التاريخي من خلال نقدهم للإسطوغرافيا التقليدية (3).
يحدو العقل الغربي من خلال هذه الثورات شيء واحد هو رغبة التعرية، لتعرية الرغبة من حيث هذه الأخيرة هي بحث إمكانية خلق شروط جديدة للاستمرار في الحياة من جديد ينتصب فيها الكوجيتو الحقيقي للذات الغربية المظمرة في الحضور والغياب معا الا وهو سؤال بماذا أرغب؟
تلكم هي رحلة الذات في الغرب، رحلة لا تجد غطاءا لها إلاّ في العراء ومن خلاله، إن هذا الفهم الجديد للعلوم الإنسانية، لم يتهيأ من عدم، بل من تراكم خبرات طويلة وثورات هائلة، فقد شهد منذ القرن السادس عشر حصول جهود مضنية ومتواصلة من أجل تحرير العقل من هيمنة الإستراتيجيات المحترمة(4).
وتأسيس معرفة علمية موضوعية قائمة على الملاحظة والتجريب: "... أدت إلى انتزاع الهيبة والاستقلالية من العقل التيولوجي انفصال العقل البشري من غياهب اللاهوت والميتافيزيقا، دون أن يعني ذلك أن علم اللاهوت أو التيولوجيا قد انتهى، أو أن الايمان محرم وممنوع في بلاد الغرب، إنه موجود ولكن بعد أن فرغ من تلك الحساسية القروسطية والعدوانية للايمان التقايدي" (5).
- قد يتساءل القارئ من جدوى هذا الفاصل والتحليل لتطور علوم الإنسان في الغرب؟
ربما لأن الباحثين في مجالات العلوم الإنسانية في الجزائر خصوصا والعالم العربي عموما لا زالوا بعيدين عن التطورات الهائلة الحاصلة في مجال العلوم الإنسانية في الغرب بل الأمر من ذلك نجد هؤلاء الباحثين وإن استعادوا هذه التصورات أو المفاهيم الجديدة من علوم الإنسان في الغرب لا يعون مسألة مركزية فيها، وهي أن هذا التطور متساوق مع البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الواقع، أي أن كل فهم جديد للإنسان في الغرب له مضامينه في الحياة العامة للإنسان الغربي.
أسئلة العلوم الإنسانية في الجزائر:
إلى أي مدى تمكن البحث الاجتماعيي والإنساني من بلورة منهج علمي، بمقتضاه نفهم الواقع، ونقف على كل متغيراته ومن خلاله نشخص أسباب أزمته، ونضع أساليب معالجتها في متناول التطبيق؟ ما مدى تحكم الباحثين في هذا المجال من جدلية النظرية والممارسة؟ وهل استفادت مؤسساتنا الاقتصادية والاجتماعية والتربوية من البحوث الاجتماعية والإنسانية؟ هل أضاف البحث الاجتماعي والإنساني مفاهيما جديدة نحاول بواسطتها تعقل هذا الواقع وفك رموزه ليس في مباشريته بل في إضفاءاته.
لا ندعي بأننا سنجيب عن أي من هذه الأسئلة، ولكن نريد وضع بعض العلامات على الطريق، وتعميق الرؤية المنهجية التي ينبغي أن تحكم أي تصور أو موقف من الواقع، وترتفع إلى المستوى الذي يتيح التوصل إلى التنظير الهادف إلى إرساء حقل نظري لهذه العلوم في بلادنا يعكس بصدق خصوصية الواقع ويتميز كذلك في مضامينه من الحقول المعرفية والنماذج النظرية لعلوم الإنسان في الغرب.
ولكن ينبغي تحدي الكثير من العوائق التي تعيق مسألة المعرفة والفهم، فالمعرفة ليست بديهية إلى الحد الذي يتصوره البعض، وليست مباحة للجميع ، إنها في أحيان كثيرة وخصوصا في المجتمعات المغلقة كالجزائر ممنوعة ومحرمة، ذلك أن المعرفة في أدنى معانيها ربما لم تكن إلا احتيالا على الواقع واغتصابا له، إنها عنف يمارس على الواقع لكي يكتشف هذا الواقع على حقيقته، ونقصد بالواقع هنا ليس على مستوى المعيش. نقصد به هنا الواقع الذي يمارس الإختفاء، وهو مسنود بسلطة خفية لا تقبل بأن ينكشف قانونها بسهولة، هناك إذن علاقة وثيقة بين المعرفة وموازين القوى السائدة، أي بين المعرفة والسلطة، سنحاول بعد حين تطبيق أسئلتنا هذه على حقل إنساني يشكل حدثا هاما في الواقع الجزائري إنه: التاريخ.
الجزائر وعنف التاريخ:
أول ملاحظة يرصدها الزائر للمكتبة الجزائرية، يرى أن جناح التاريخ هو أكبر الأجنحة الموجودة فيها، نظرا للتنوع الهائل للأحداث التاريخية التي شهدتها الجزائر، مثل الحضارات القديمة المتعاقبة على هذه الجغرافيا، إضافة إلى التاريخ المعاصر للجزائر متمثلا في الاستعمار الفرنسي وإرث الحركة الوطنية في النضال السياسي والاجتماعي للفكاك من رقبته، فهل كتب التاريخ الجزائري بعد؟
رغم التخصيص الهائل للامكانيات الكثيرة بعد الاستقلال لإعادة كتابته، مازال التاريخ الجزائري يستعاد كذاكرة تحتويه الشفوية. فالكتابة التاريخية في الجزائر مازالت تأخذ ذلك الطابع الحدثي الذي يؤطره خط سياسي أو إيديولوجي معين الذي يختزل الحدث التاريخي من كل الشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية االذي انتجته، فالمؤرخ الجزائري وإن تناول شرطا من هذه الشروط، فيحصره على حد تعبير المؤرخ الجزائري: "محمد حربي" "في السياسي ويقص الاجتماعي" (6).
فالمؤرخ الجزائري ما زال مشدودا الى النموذج الاسطوغرافي التقليدي،رغم أن الإنجازات المنهجية التي حققها الدرس التاريخي أي التوقف من اعتبارات التاريخ يتطور خطيا والانتقال الى عمليات سبر الأغوار لاكتشاف الطبقات العميقة التي تحركه، إن الانتقال من اعتبار التاريخ كذاكرة إلى التاريخ،- بكل ما تحمله كلمة تاريخ من تطورات منهجية- في إعادة بناء الماضي بناءا عمليا كفيل باعطائنا الكثير من الحلول للمشاكل التي تعاصرنا وتواجهنا، أم أن نعيد الماضي بنظرة رومانسية، للنظرة التي تقضي مسألة أساسية في كل عمل تاريخي ، لا نعتقد أن التراكم التاريخي للجزائر أي تراكم المنتوج النصي التاريخي قد يشكل حدثا هاما، بل يمكن أن نصف هذا الحقل: أي التاريخ الجزائري على أنه التراكم الذي لم يحدث تحول في بنيات المجتمع الجزائري من خلال إحداث خلخلة فيها، خلخلة تساعد على تقويض النظرة الماضوية وتسعفنا الانتقال من الذاكرة الى التاريخ.
الجزائر التزام فكري:
إن التحولات الكبيرة التي تشهدها الجزائر اليوم، وعلى مستويات كثيرة من خلال القضايا والإشكاليات التي برزت وكنا نعتقد في وقت مضى أننا حسمنا فيها، زيادة الى التحولات الجارية في العالم كالدعوة إلى العولمة المشروع الذي يمكن أن نفتقد فيه حتى هويتنا، كلها تفرض علينا ممارسة السؤال والنقد،السؤال الي يغوص في أعماقنا لاستجلائها بوضوح، كما يفرض علينا أن نغير من استراتيجيتنا التقليدية التي يحتويها في أغلب الأحيان، السياسي وممارستها بشجاعة تفرضها استفهامات المرحلة.
إننا مطلوبون بالانخراط في هذه الإلتزام، أن نجعل من الجزائر أفقا للفكر، ويعني هذا بناء معرفة بتاريخنا وواقعنا الاجتماعي والسياسي والثقافي تسعفنا في تجاوز هذه السلبية المطلقة وحالة العطل هذه، وإنشاء معرفة يكون نموذجها الاستراتيجية وعلم المستقبليات لمقاومة كل أشكال الاضطهاد الفكري والجهل الجماعي بالانخراط والإلتزام في مشروع الجزائر، ويبقى للسياسي هامش كبير في الأزمة.
مجلة التبيين،العدد 9/ أفريل 1995
رابط المقال: https://archive.alsharekh.org/Articles/44/671/76350
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 04 أوت 2021