الأمير عبدالقادر و خصوصية تجربته الصوفية

 

المؤلف : الأستاذ عبد الوهاب بلغراس

المؤسسة:مركز البحث في الأنثروبولوجيا الإجتماعية و الثقافية CRASC

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

 

 

 

 

    يقول الأمير عبدالقادر عن مرحلة صباه: "كنتُ مغرما بمطالعة كتب القوم- رضي الله عنهم –(يقصد الصوفية )منذ الصبا، غير سالك طريقهم، فكنت أثناء المطالعة أعثر على كلمات تصدر من سادات القوم وأكابرهم يقف شعري وتنقبض نفسي منها، مع إيماني بكلامهم على مرادهم لأني على يقين من آدابهم الكاملة وأخلاقهم الفاضلة..[1]."

       يعرّف التصوف بأنه" جهاد النفس في سبيل الله أي لأجل معرفة الله وإدخال النفس تحت الأوامر الإلهية والاطمئنان والإذعان لأحكام الربوبية، لا لشيء آخر غير سبيل الله" [2] .ولما كان التعريف يتفق مع الحال، ولما كان الأمير يصرح في (الموقف 71) أن فهمه جاء عن طريق الواردات أي من عند الله، فإننا نستنتج أن تعريفه هذا يرتبط بجهاده هو في المرحلة الأولى ضد الاستعمار الفرنسي وجهاد النفس الذي يعتبر الجهاد الأكبر عند الصوفية.

        ما يميز الأمير في تصوّفه أنه مع تقديره واعترافه بضرورة الشيخ في الطريق الصوفي إلا أنه في الوقت نفسه يحذر من أي تقليد سواء تقليد الرجال أو تقليد الكتب، ولا يرضى إلا باجتياز التجربة الروحية والمجاهدة، نجده في تقديم كتاب المواقف يقول بأنه يدرك عن الحق بفهمه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بالتفهم الرباني. وهو في كلامه في هذا المجال يخاطب الخاصة غير المقلّدين " إذا كنت مقلدا فإن كلامي ليس معك"  وهو رغم تأثّره بالشيخ الأكبر ابن عربي فإنه يعتبر شارحا له و بالتالي  هو من دعاة الفهم الجديد للدين التليد  كما كان يقول دائما.    ومن هنا فتفسيره لأفكار ابن عربي وشرحها عبارة عن تجديد، بل كثيرا ما نجده يوازن بين أعلام التصوف كالجيلي عبدالكريم وابن عربي وينتصر لأحدهما مرفقا ذلك بالتبريرات.[3] 

      نجد أنه حتى في الأحوال والمقامات الصوفية التي يتحدث عنها، لا يتجه اتجاها نظريا كما هو الشأن في الأدبيات الصوفية بل إن مقاماته منطلقة من تجربته الذاتية. وقد يصنف الأمير من زاوية أخرى أي من حيث كونه عالم دين أو فقيه مجدد ومجتهد ورافض رفضا كليا للتقليد وهذه خاصية مهمة جدا من الناحية الإيبستيمية على مستوى المنهج.

    وفي مرحلة "النضج الصوفي"، وهي المرحلة التي يفك فيه أسره ويحقق مبتغاه وهو الاستقرار بدمشق، تعمق فيها في علوم القوم (الصوفية) وتعرّف على دقائق الحقائق، وجال وصال واختلى واعتزل، وفيها أشهر خلوة  وهي خلوته لمدة عامين بين مكة والمدينة المنورة والكشف المبين كما يسميه، ولقاءه بالشيوخ الكبار في التصوف. وهنا يؤلف كتاب المواقف في التصوف والوعظ والإرشاد[4]  وهو  عبارة عن ثلاثة  مجلدات خاصة بالتصوف على غرار الفتوحات المكية لابن عربي ،حقّق في سنوات 1960 ، فيه تفسير لآيات قرآنية وشرح لأحاديث نبوية وتبسيط العقيدة إلى جانب المسائل الوجودية والتاريخية وغيرها.  

        ومن جهة أخرى كانت له لقاءات ومناظرات مع مختلف الشخصيات السياسية والعلمية  والعسكرية خاصة الأوربية، مكنته مختلف اللقاءات والرحلات من الاقتراب من التقنيات الحديثة التي عرفتها أوربا في القرن التاسع عشر والتعرّف عليها عن قرب ،إلى جانب حضوره الكثير من الأحداث المهمة كتدشين قناة السويس بمصر إلى جانب زيارته للعديد من البلدان العربية والأوربية. وعن خلوته بمكة يقول ابنه محمد بن الأمير عبد القادر في- تحفة الزائر-"وما تم له الارتقاء إلا في غار حراء ووقع له الفتح الربّاني وانفتح له باب الواردات واستظهر من القرآن آيات ومن الحديث لنبوي أحاديث صحيحة."  [5]

    كما يذكر الأمير نفسه في- المواقف- هذا الفتح الربّاني: "إن الله قد عوّدني أنه مهما أراد أن يأمرني أو ينهاني أو يبشرني أو يحذرني أو يعلمني علما أو يفتيني في أمر استفتيته فيه ،إلا ويأخذني مني مع بقاء الرسم ثم يلقي إلي ما أراد بإشارة آية كريمة من القرآن ثم يردّني إلي فأرجع بالآية قرير العين."[6] فالآية بالنسبة للأمير عبدالقادر علامة أو إشارة أي دال يدل على مدلول من خلال رمزيتها ويقدم في المواقف عدة أمثلة. وبالنسبة للإشارة فإن جميع أنواع الفهم والتفسير والتأويل مقبولة ما دام الله أراد ذلك ،فابن عربي على سبيل المثال يعفي أصحاب الإشارة من أي شرط يتعلق باللغة البيانية إن على مستوى الحقيقة أو على مستوى المجاز "فما يفهمونه من القرآن على سبيل الإشارة هو مقصود الله في حقهم  والله هو الذي أراد لهم ذلك الفهم على سبيل الإشارة، وهذه الدرجة يقول ابن عربي يبلغها من ينزل القرآن على قلبه.

       وهكذا فإن الأساس الفلسفي للخطاب الصوفي لدى الأمير عبدالقادر تمثل في مدرسة ابن عربي  و المفاهيم الصوفية المعبرة عن تجربته في الوجود، والحقيقة المحمدية المتجلية في التاريخ  ،حيث نجده في الموقف الأول يستدل  بالآية القرآنية "ولكم في رسول الله أسوة حسنة"  حيث يعتبِر الرسول (ص)معلمَه، من هنا تمثّل التجربة المحمدية في بعدها الرمزي الذي يمثل الإنسان النموذجي في الإسلام.

   غير أن الأمير عبدالقادر من جهة أخرى له مصطلحاته الخاصة المرتبطة بتجربته الذاتية. ويعرف الأمير طريق السالك والترقي في المراتب كالآتي: "إن السالك أول ما يحصل له الكشف عن عالم الحس ثم عن عالم الخيال المطلق ثم ترتقي روحه إلى السماء الدنيا ثم إلى السماء الثانية ثم إلى السماء الثالثة ثم إلى العرش ،وهو في كل هذا من جملة العوام المحجوبين، إلى أن يرحمه الله تعالى بمعرفته ويرفع عنه الحجاب فيرجع على طريقه فيرى الأشياء حينئذ بعين غير الأولى ويعرفها معرفة حق. وهذه الطريقة وإن كانت أعلى وأكمل ففيها طول على السالك وخطرها عظيم .فإن هذه الكشوفات كلها ابتلاء"[7]

     والابتلاء هنا تربية وتهذيب والمعرفة الحقيقية معرفة حقية أي من عند الله لا معرفة خلقية (من الخلق) فهي تختلف عن المعرفة الكونية التي –حسب الأمير- تشكل حجابا وعائقا أمام معرفة الحق . والسالك بقطعه هذه الأشواط والمراحل أو ما يسمى بالصعود في المراتب ثم النزول بعدها إلى عالم الحس ليعلم علوم الكون أي يعود إلى الواقع الحسي ولكن هذه المرة أصبح محصنا معرفيا وروحيا بحيث لا يرى شيئا إلا ويرى الله فيه.

     أما المجاهدة(ومن هنا نكشف المفردات الجديدة في لغة الأمير الصوفية) فتسمى  عند الأمير "الهدي" ،والهدي أنواع و الموصوفون به أنواع ومراتب ،المهتدي والأهدى والأعظم هدى .

1-المهتدي: هو الموصوف بالهدي بالدليل العقلي والبرهان.

2-الأهدى: الذي حصل على الهداية بالإيمان وتصديق الرسول وهم أهل التقوى والاستقامة.

3-الأعظم هدى: الذي حصلت له الهداية بالكشف والعيان وهم أهل الكشف والاطلاع (الصوفية) . ولا غرابة في أن يعتبر الأمير نفسه من الصنف إذ يقول:" ومن بعض نعم الله علي أنني منذ رحمني الله بمعرفة نفسي، ما كان الخطاب لي والإلقاء علي إلا بالقرآن الكريم العظيم ".[8]

     يتحدث الأمير عن المقامات التي عاشها وخبرها وعانى من تجربته معها، وكل موقف وحدث من سيرته الذاتية يعتبر سلوكا على طريق الوصول إلى الحق (مقاومته للمستعمر وما تحتوي من مرابطة وفتوة وصبر، معاملته للأسرى وحربه الشريفة، الصبر والتوكل أثناء الأسر، حمايته للمسيحيين في أحداث 1860 والأثر الذي تركته فيما بعد، كما أنه يعتبر مقام التوكل الأساس لسلوك الطريق والمفتاح للوصول لمقام التحقيق فمن أعطيه أعطي الوصول ومن حرمه حرم الوصول، و التوكل هنا لا يعني ترك الأسباب بل الثقة والطمأنينة.

   وفي الأخير، فإن أطروحة الأمير عبدالقادر الصوفية، تقوم على أساس تنزلات الأسماء الإلهية باعتبارها هي التي تتحكم في الإنسان. وما دام الأمر كذلك فلا يمكن أن تتحكم الأسماء جميعها في آن واحد لأن فيها من التضاد ما لا يمكن أن يجتمع معا في آن واحد، لذا فهي تتنقل في أحكامها على الإنسان بين لحظة وأخرى من اسم لآخر.

ومن هنا يمكن تفسير ما يبدو أنه مفارقات أو أضداد في مسار حياة الأمير عبدالقادر إن مع الاستعمار الفرنسي أو مع غير المسلمين عموما. فالأمير عبدالقادر قد يتخذ موقفين بالنسبة لعالمنا -عالم الشهادة- يبدو متناقضا كأن يرفض شيئا ثم يقبل الشيء نفسه ،وهذا كله لا يفسر إلا تفسيرا عرفانيا.

   

          

   -------------------------------------- 

[1] الأمير عبدالقادر،المواقف،ص:58

[2] الأمير عبدالقادر، المواقف، مرجع سابق،ص130

[3] الأمير عبدالقادر، المواقف، مرجع سابق،ص:43

[4] المواقف الروحية والفيوضات السبوحية، تحقيق عاصم إبراهيم الكيالي، منشورات محمد علي بيضون ،دار الكتب العلمية ،بيروت ،لبنان ،2004. 

[5] -محمد بن الأمير عبدالقادر، تحفة الزائر في تاريخ الجزائر والأمير عبدالقادر، تحقيق ممدوح حقي ،الجزء الأول والثاني ،ط 2 ،دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر ،بيروت ،1964.ص:295.

[6] الأمير عبدالقادر، المواقف، مرجع سابق، ص:43

[7] الأمير عبدالقادر، المواقف، مرجع سابق، ص :67

[8]  المرجع نفسه، ص: 144

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة