صورة الإنسان البعدي والتّاريخ التراجيدي في فلسفة نيتشه

 

 

المؤلف : الأستاذ مراد قواسمي 

المؤسسة: قسم علم الفلسفة، جامعة مستغانم

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مخبر البحث  :الأنساق، البنيات النماذج والممارسات، جامعة وهران2

 

 

 

« أن نخلص الماضي، وأن نحول كل "ذلك ما كان" إلى "ذلك ما أردت" فذاك فقط هو ما أسميه

 خلاصا (...) جمال الإنسان الأعلى أطلّ علي في هيأة طيف: ماذا يعنيني في الآلهة إذاً ؟...»

نيتشه (ف): هذا هو الإنسان، ترجمة: علي مصباح، منشورات الجمل، ص ص 129.128.


 

التّاريخ تراجيديا يُرفع الستار عنها لنستمتع بمشاهدها ونستمع إلى موسيقاها بآذان فنّانة. أحداث التّاريخ هي حركات وأفعال أبطال التراجيديا، نجاحاتهم وإخفاقاتهم، إلاّ أن دورة التّاريخ لن تعرف اكتمالها إلاّ بمراجعة كلّ شيء حتى يعلن بعدها ميلاد جديد لا يعترف بالقيم التي عرفتها الدّورة الأولى، فدائما يتطلّب هذا التاريخ مشاهد جديدة، وبالتالي ممارسات جديدة، لن تقوم قائمتها إلا بعد إسدال الستار ورفعه من جديد، إذ يجدر الخروج من تقاليد قديمة: « عندما أتيت إلى العالم وجدته جالسا على افتراضات قديمة واثقا أنّه عرف كلّ شيء »[1] ففلسفة الوثوق هذه هي التي يكون السعي جاهدا إلى حلّها والعمل على انحلالها، و لذا من الأفضل القيام بعملية تجديد للحياة.

الإنسان، تجاوز الذات والمنعرج التاريخي:

تؤدّي هذه القراءة إلى استنتاج حركة مزدوجة متضمنة في أشعار زرادشت(Zarathoustra) ، من خلال حديث « الوصايا القديمة والوصايا الجديدة » ثنائي البُعد، وهذه الثنائية تتمثل في عملية الهدم ثم التأسيس[2]، فهدم الماضي ضرورة ملحّة تُصرُّ على أن تكون السبّاقة في إحداث القطيعة الجذرية مع كل ما سبق، فما إن يلتف الإنسان حول ذاته إلاّ ويجد العالم قد تغير من حوله، وعليه حينئذ أن يتلاءم مع الوضع الجديد، وقد يصنع هذا الوضع وهذا العالم بيديه لأجل مواصلة دربه وإثبات ذاته، بوصفه تراجيديًّا ناجحا في إبداع أدواره، لا في تقليد شخصيات قرأ عنها أو شاهد لها مسرحيات في زمن ماض وإلا كان ذوبانه فضيحة. ولأجل التخلّص من الشوائب التي علقت بمصير الإنسان لابدّ من خلع شجرة الفلسفة وقلبها رأسا على عقب، لكن على ألاّ تستعيد مسامعنا الإنصات لتلك الأصوات المنفّرة التي هي للأجواء معكّرة، وهنا تفترض حركة القلب ما يسمى بالهدم (niedreiBen/démolir) بالطّرْقِ طرقات صلبة لِئلاّ تعاود الميتافيزيقا التّفكير في زيارة محارمنا التي خصصنا لها من سيحجّ إليها ويعود عودًا أبدياً.

ليست حالة الهدم، هذه، حالة عشوائية أو حاقدة وإنما كل غرضها تقديم خدمة للإنسان الذي حُرم من معايشة الزّمان الجديد، إذ كثيرا ما تمّ تجاهل الآثار التي سيخلّدها لاحقا، فالأمر لن يكون ضده وإنما لصالحه، فالتّاريخ كهاجس النظر إلى الوراء لم تكن له أية فائدة بدون هذه الصّلاحيات، صلاحيات تجاهل الآخرين، فإذا كانوا أعشاب ضارة تعيق عبورنا نحو البحث عن ذواتنا سيصبح اقتلاعهم واجبا حتى وإن كانت هذه الأعشاب الضارة فينا ساكنة. تلكم هي تعاليم المستقبل الشّجية ألحانُهُ، إنّها عدمية التّجاوز والانتصار، فلأجل تجاوز الزّمان يجب تحقيق القلب، "منعرج التّاريخ"، الذي لن يكون سوى بواسطة "قلب القيم" « فأي متى تأتي ساعتي: ساعة انحذاري وجنوحي؟ فإنّني أريد أن أنحذر إلى الناس ثانية، ذلك هو سبب انتظاري إذ لابدّ أن تعلن لي علامة اقتراب السّاعة فأرى الأسد الضاحك وسرب الحمام الزّاحف » [3]. إن السّاعة المقصودة، هاهنا، هي التي تشكل جوهر ذاك المنعرج الذي سيجلب معه العديد من علامات زمان الإنسان الجديد، تاريخ هذا الإنسان وإنجيله (إرادة القوةVolonté de puissance ) وحتى طريقته في التّفكير وتسيير الأمور. هذا المنعرج نوع من التنبؤ الصوفي للتّاريخ الجديد، تاريخ القلب، وهو ما يسمّى بالفلسفة المستقبلية أو العدمية كفلسفة "المنعرج" (Tournant) ولكن هذه الأخيرة تحوي في ذاتها حركتين فلسفيتين: الأولى تقديم للثانية وتمهيد، بينما الثانية ضرب في الصميم وتسديد.

يحاول نيتشه أن يحملنا بهذا الصدد على الاقتناع بأنّ التّاريخ لن يستوفي حركته ولن يخرج من غياهب الانحطاط المظلمة إلاّ إذا قام فعليًا وواقعيًا بقلب القيم، كليةً وإجمالاً، الذي هو علامة عودة الإنسانية إلى ذاتها، ولكن هذا الفهم الأكسيولوجي للتّاريخ يمنح شرعية قلب الشِّرْعَةِ وتبنيها على أنّها ما يسميه بـ"الظّهيرة"(Le midi)  التي ستتحقق معها إنسانية جديدة لا تعترف بالمتعالي والمفارق من القيم، لأنّ القيم التي ستعلن بدل "القيم القديمة" هي كل ما يختلف عنها لإعلان ميلاد جديد للإنسان الجديد، ولكن برغم هذه الحركة التي تسهم كثيرا في تغيير وجهة التّاريخ إلاّ أنها ليست اللّحظة المنتظرة.

العدمية والتاريخ، معنى اللاأخلاقي:

لا يمكن للإنسان أن يتشبث بطموحات واهمة لصيقة بالماضي، طموحات هي أقرب إلى العدمية السلبية، فإذا كان لزاما عليه تجاوز هذه الطريقة في محاكاة الماضي، في تقليد الأسلاف فحريّ به أن يؤسّس ذاته ولن يكون تأسيس الذّات خارجا عن تجاوز هالة القيم العليا. إننا لا نتحدث، يقول نيتشه، عن لحظةٍ آليةٍ في تعويض قيم معينة بأخرى تحتل مكانها تعسفا، بقدرما هي عملية عفوية، لها كامل الحرية في انتقاء آرائها وأخلاقياتها وقيمها، إنّها الرؤية اللاّأخلاقية للتاريخ، بالأحرى، وإذاًً فتجاوز الحاضر المنحط وفق رؤيةٍ مستقبليةٍ سيكون لائقا به أن يتحقق في أقرب زمن ممكن، إذ إنه ليس بالمستحيل، ومن هنا فإنّ تحوّل الفكر من البحث في الوجود (Ontologie) إلى البحث في القيمة (Axiologie) هو ما يسهّل المهمة على إنسان نيتشه لأجل تحقيق "المنعرج" الذي يحلم به بدون اعتراض من أي طرف إذ سيكون الأمر مباحا لسائر الأطراف فـ « الخطيئة والخطأ ليست ظواهر لصيقة بالوجود الإنساني»[4]  وعلى هذا ليس الوجود، الذي أصبح قيمة، عصيّا عن التصرّف فيه. إنّ لحظة إعلان تحول الوجود إلى قيمة هي نفسها لحظة حرية التصرّف في القيم، فبعد تجاوز قيم: الخطيئة، الشر، الذنب والعقاب...يحدث أن يعلن الإنسان ذاته ككائن لاأخلاقي (Immorale/immoralich) فهو ليس مضطرا إلى التقيد بمعايير العصر وحاضره، وبدلا من الرّحمة المقيتة عليه أن يتجه إلى براغماتية الموقف، أن يكون نفعيا مثلا. تلكم هي أخلاق زمان المستقبل التي يقوم عليها الإنسان حالما بحياة أوسع ومستقبل أفسح. تعني عبارة: "لاأخلاقي": الخارج عن "القطيع" الذي ليس متحضرا ولا معاصرًا، إنّه متخلف، حتى وإن كان "متقدما" و"متنورا"، حتى وإن كان ذا "فكر حر" فالحكم حكم "القطيع" أي حكم العموم والعوام « إنّ كلمة لاأخلاقي تعني أنّ الفرد لازال لا يشعر أو أنه يشعر قليلا، فقط، بالدوافع السّامية في سلّم الرقة والعقل اللذين يعتبران في كل مرة محصلة حضارة جديدة، إنّها تعني: متخلّف...»[5] ولكن كلمة متخلّف، هاهنا، لا تحمل دلالة التأخّر والخَرَق والجنون، وحتى وإن كانت تلك هي الدّلالة المقصودة إلا أنها متعارَفٌ عليها فقط لدى الأخلاقيين الذين يمقتون الخارج عن قانونهم. إنّ كلمة اللاأخلاقي قد تعني المجنون ، أو الأخرق (unsinnig/insensé)  المفرط في الجنون والمُجُونِ، قد تعني من يقع في الخطأ وتعني أشياء أكثر خطورة من ذلك، ولكنها أيضا تعني الإبداع، تعني الخروج عن القطيع، إنّها تحمل دلالة البراءة (unschuld/innocence) وهذه هي الدّلالة التي تمنح الإنسان المبدع حق الخلق والتقييم وإبداع حياة فوـ تاريخية(Supra-historique) ، حياة تقع على هامش تاريخ أخلاقيات القطيع، ليَسخَرَ من ممارساتهم المنحطّة، معلنًا انفصاله عنهم، لأن منطلقه في فهم الوجود على أنّه قيمة، قد يمنحه حق تعديد الوجود ذاته وفهمه من منظوره بمعانٍ مختلفة، أي أن يصنع من وجود الحاضر وجودًا أفضل من وجود الماضي، ما يسمح له بخلق الثّراء الأنطولوجي مبتعدا عن أنيميا الحياة(Anémie de la vie) ، فالوجود في نظر الفلاسفة واحد، لا يمكن وصفه إلا بالمفهوم، بينما يفهم نيتشه الوجود استعارة واستعاريّا، وجودا تأويليا والفكر هو من يقرأ انهمامه فيه عبر هذا التّعدد، وكأننا هنا بصدد الحديث عن السفسطائي الذي يتحايل على خصمه فقط لأجل إقناعه لا لأجل بلوغ الحقيقة المطلقة عبر الماهيات.

صورة الإنسان والحدث في التاريخ الجديد:

يبدو، عبر فكرة المنعرج، أنّ ما يحققه الإنسان من مكاسب ستؤول إلى الانفراد بذاته، بحيث يدخل مرحلة اللاـ تاريخ (التاريخ الجديد)، مرحلة التفرد، التوحّد (Solitude) والعزلة، وهاهو "الإنسان وحيدًا مع نفسه" يقترح الألغاز ويحلّ الأحجيات بينه وبين ذاته لا يشاركه أحدٌ باحثًا عن ذاته في "الصّحراء" و"البيداء" والأماكن الواقعة على هامش المدينة*، وهي مرحلة التفرّد الإنساني الذي يحيا عبره مستقلا عن سائر الأفراد، وهذا ما يعني أنّ التّاريخ لا يكون إلاّ وفق معايير الجماعة وأخلاقياتهم، والحياة تجعله يتفرّد بسلوكات لا يشارك فيها أحدًا، والحدث اللاّ-تاريخي هو ما يكون انطلاقا من ذاتٍ فرديةٍ تعمل على تكريس أفكارٍ تراها بالتحقق أجدر وعلى منوالها في السير أفضل لمدة من الزّمان أطول. من الممكن أن تحقق المدينة (stadt/ville) كثيرًا من المؤالفة بين أفراد البشرية، ومن المؤانسة ما يجعلها تتجمع كأسراب النّحل على الزّهرة ولكنها في الوقت ذاته ستأكل من الرّحيق المسموم ذاته، ستشارك بعضها مصير بعض، ولن يتفرّد أحدٌ منها في رؤية خاصّة لحياةٍ خالصةٍ، وعلى هذا فإنّ استعارة الـ"قطيع" وفقا لهذا الفهم هي استعارة مستهجَنَة غير أنّها وحدها يكون فيها التّاريخ والحدث التّاريخي بحيث تتقاطع الذّوات أو تتجمع، ولكن الرّفض الذي يتأسس على استهجان معايير الحضارة أو ثقافة ما والعيش فيما بين "حشرات مجتمعها" يقوم في الوقت ذاته بدفع الإنسان إلى البحث عن وسطٍ جديد وبيئة مخالفة تتجاوز إنسان تلك التقاليد، إنسان "القطيع"(L’homme du troupeau)  علمًا أنّ "القطيع"  هو الوسط الضروري والشّرط اللاّزم الذي تتحقق به اللّحظة التّاريخية من حيث هي لحظة تشترط فعلا جماعيا(Acte collectif) ، ومن هنا يدفع نيتشه بالفرد إلى "التّسامي" عن أخلاقيات هذا "القطيع" وإلى التّرقّي عن مستوى الحياة التّاريخية ليحقق اللّحظة التي يبدعها هو ذاته ولا أحد غيره، هي اللّحظة اللاّـ تاريخية، فيعيش بمعزل عن التّاريخ ذاته (jenseit der geschichte/ par-delà de l'histoire).

العقل الحر وموقف القطيعة التاريخية:

إن الموقف النقدي للتّاريخ يعني الوقوف ما وراء التاريخ، وفقا للوقوف فيما وراء الخير والشّر (jenseit der gut und böse/par-delà le bien et le mal)  . هذه العبارة هي ما يحبّذه "العقل الحر" (L’esprit libre) إذ تحمل ثقلها من حيث إنّها دعوة صريحة إلى تفكير التّوحد الإنساني والسعي به إلى الوقوف على أطلال التّاريخ المنحط (L'histoire décadente) بأن لا يشارك مجتمعات عصرٍ ما في مجالها التّاريخي، علمًا أن المجال التّاريخي يشمل كل الميادين: أخلاق، دين، فلسفة وفن، وفي هذه اللّحظة يكون الإنسان في إطار التأسيس لذاته والانفراد بلحاظه "التّاريخية" الجديدة، أو اللاّتاريخية، التي يعبر فيها ببطولة عن رفضه للقيم العليا، سببُ الحِطّة والانحطاط اللّذان يمثّلان الزّمان الحاضر. تتجسّد لحظة "الغضب" على الحاضر المنحط في إعلان القطيعة عنه، انطلاقا من "الفلسفة التّاريخية" (philosophie historique) أفضل الحلول (=المطرقة)، فلا هي بالخَطِرَةِ على الحياة ولا تنتسب إلى الأنثروبولوجيا، وفي الوقت ذاته توظّف القوى الهدّامة، ولكن لصالح الحياة التي لن تترك المعرفة النّظرية سليمة معافاة، وبذلك سجّلت "الفلسفة التّاريخية" انتصارا على "الفلسفة الدوغمائية" التي تفترض أنّ القيم خاضعة لتساؤل جذري حول الأعراض والوسائط التي وُلدت فيها، وهو الأمر الذي يعني أنّ التّاريخ النقدي* هو الهدم (niederreiBen/démolire) (=لحظة القلب=القطيعة) ونبش الماضي قصد تحقيق الذّات لا نفيها، إذ إنّ الخطر الذي يراود الإنسان، حين الاشتغال على هذا النمط يتمثل في أن لحظة الهجوم على أنواع المقدّسات والتّقديسات نوع من هدم الذّات وفي اللّحظة التي يحطّم هذا الإنسان ماضيه فهو يجدّده حاضرًا دائمًا وعلى الدّوام، إنّه يسعى إلى إلغاء تراكمات الأجيال السّابقة فيه، إلى نسيان ممارسات أبناء تلك الأجيال وثمار الجذور التي يسعى إلى بترها، وفواكه أخطاءِ شهوات أجداده وحتى جرائمهم، كما أنّ العمل على نفيهم يعني نفي الذّات، وبما أنّه لا يمكن إلغاء، تماما، هذا التسلسل فإنّ الحل في أفضل صيغه يكون بمحاولة التوصّل إلى شِقَاقٍ بين الطّبيعة الأولى والحالة الرّاهنة أو يمكن القول أيضا في المواجهة بين سلوكات صارمة من نوع جديد ضد ما تمّ تجريبه مع الموروث المغرق في القدم، أي زرع عادات جديدة، بحيث إن الطبيعة الأولى تتلاشى وتندثر، وبهذا يتمكّن، نيتشه، من تكريس مفهوم القطيعة (bruch/Rupture) من خلال العودة إلى الماضي ونبشه ونقده ثم هدمه كليا لأجل إعادة التّأسيس. ولكن يبقى الخطر دائما يراود الإنسان إذ إنّه من الصعوبة بمكان رسم حدود للقطيعة مع الماضي، فالطّبيعة الثّانية تبدو في أغلب الأحيان أضعف من الأولى وعلى الرغم من الخطورة التي يبدو عليها الحل إلا أنّه أفضل من حيث فيه عزاء الفرد الذي يدرك بأنّه حتى الطبيعة الأولى هي الأخرى كانت طبيعة ثانية في القديم وأنّ كل طبيعة ثانية تفرض أولويتها من حيث قوّتها وشدّتها[6].

الظهيرة الكبرى، زمان موت الإله:

مع هذه القطيعة تجلى "الظهيرة الكبرى" (Le grand midi)  التي هي زمان النّور الأكثر ضياء، زمان "إرادة القوة" والوجود اللاّمشروط واللاّمحدد بمعايير[7] ، قد يكون هو زمان الإلحاد أو الصدفة، ومعها أصبح التّاريخ يتيما بعد ممات أبيه، أي موت الإله(La mort de Dieu)**، وبعد أن وجد نفسه وحيدًا يعاني الغربة والاغتراب فقد كان عليه أن يأخذ بزمام الأمور، أن يتحرر من طغيان الأب المتسلّط، فكيف أمكنه أن يتحرر، وكيف نفهم الموت هاهنا ؟

يغدو هنا فهم مسألة الألوهية عويصاً وهذا ما جعلها تحمل طابعين اثنين أولهما طابع الإلحاد (Atheismus/Athéisme) والثاني طابع تعدد الآلهة(Polythéisme) وكلاهما يصبّ في المنبع ذاته، ولكن الإله في لغة الأنطولوجيا هو "الأصل"(L’origine)  أيضا الذي منه كل شيء ينبثق وينبعث، هو العلّة الأولى، العلة الفاعلة وعلة كلّ العلل التي تعتبر أنّ أصل العالم وكل شيء يعود إليها، والحالة هذه، فإنّه (أي الأصل) يفرض على الإنسان سلطة مفارقة تقوده إلى حذفه، فقد كان "معنى" الوجود كلّه يستمد من الفهم الإلهي له، وعلى هذا كان التّبرير المنطقي لمعاناة الإنسان هو أنّه كائن مخطئ، يقع في الخطيئة ومن ثمة فالوجود ظالم، غير أن الأمر يختلف بالنسبة للإغريق: « لقد كان الإغريق يتكلّمون عن الوجود كإجرامي ولكنهم (...) لم يخترعوا هذه اللّباقة التي تقوم على اعتباره خاطئا ومسؤولا »[8] ولأجل تجاوز هذا النوع من اتّهام الوجود جاءت عداوة نيتشه مفرطة باتجاه ما يسمى بـ: "الإله"، "الفضيلة"، "الحقيقة"، "العدالة" لأنه لا يرغب أبدًا في فتح دروب تحيله إلى  المثال القديم، وإنّما يسعى دائما إلى تضييق الخناق عليه، وتوسيع العداء ضد كل أجناس الإيمان والمسيحية الرّاهنة، ضد كل ما هو رومانسي ((romantisch/romantique ضد كلّ روح وطنجية (Esprit patriotard) وضد كل ما يحاول إقناعه بضرورة التدلّه (anbeten/adorer) والعبودية لأنّه كما يقول لا يؤمن بشيء ولا بشيء يسلّم « نحن أعداء التخنّث الأوروبي أو المثالية (...) نحن اللاّـ أخلاقيون، الملحدون (gottlos/impie) (...) نحن أهل الإرادة النّافية التي لا تخشى النفي، التي تنفي ذاتها وتهدمها بفرح ! »[9]، وعلى هذا فإنّ حيلة "موت الإله" لدى نيتشه ضرورية للتخلّص من أفكار الخلاص (Salut) والأخلاقية (Moralité) والثنائية المعيارية، وعموما « تفسير التّاريخ تحت سيطرة العقل الإلهي الذي يدلّ على نظام أخلاقية الكون وغائيته النهائية»[10] وذلك كلّه للوصول إلى فكرة طرح السؤال بصدد معنى الوجود.

يسعى هيدغر (Heidegger) لأن يتأوّل فكرة "موت الإله" لصالح بلوغ العدمية أوج قممها بأن يمنحها معنى سقوط كلّ الماورائيات عموما، كل القيم العليا، سبب الانحطاط، غير أنّه بذلك يسعى إلى تبرير موقف نيتشه تجاه التّاريخ ويترك المسألة عالقة «...الإله هو الاسم الذي يقصد به نيتشه عالم المثل والأفكار منذ أفلاطون وتحديدًا منذ التأويل الهلليني والمسيحي للفلسفة الأفلاطونية...»[11] وبالإمكان قراءة هذه العبارة قراءة مزدوجة: الأولى منها هي انحطاط القِيَم بينما الثانية هي فقدان العناية الإلهية (vorsehung/providence) أمّا القراءة الأولى فهي ما اعتبرناه بمثابة لحظة الخروج عن التّاريخ والعيش والإقامة في تخومه، بينما الثانية فهي ما يتطابق وكلمة  "الإلحاد" القاسية على العقول والقلوب المؤمنة في حينإذ يختلف الأمر تماما إذا ما تعلق بشوبنهاور. لقد ظلّ نيتشه، برغم انقلابه على شوبنهاور، شوبنهاوريا من عقيرته إلى أخمص قدميه، فقد كان دائما يفتخر بإلحاده المعلن الذي يفهم عبارة "موت الإله" فهما بسيطا وظاهريا، فقد كان شوبنهاور معاديا لباسكال(Pascal) ، لهيغل (Hegel) ، وحتى لديكارت (Descartes) من قبلهما،  بما أنّ كل تفكيرات الفلاسفة تسبيحٌ بحمد العقل الإلهي وامتنانٌ للدّور الذي تلعبه في رعاية التّاريخ والإنسان وصاية معلنة عليهما، بينما كان شوبنهاور معاديا يستقرف مثل هذه الرؤى الكوميدية للتّاريخ، فـ « اعتبر لاـ ألوهية الوجود كشيء مباشر، واقعي، وغير قابل للتبرير ! (...) وفي هذه الفكرة يكمن صدقه: الإلحاد الكلّي والصّادق هو أوّل الشروط في طرح مشكلته، إنّه انتصار بالنسبة إليه... »[12].

حكاية الأخرق وسؤال التاريخ:

الواقعة نفسها، "موت الإله"، يمسرحها نيتشه ويعطيها طابعا دراميا مَهولا، لأنّ هناك شيئا عظيما قد حدث، شيء لم يخطر ببال أحد، هو أقرب إلى الإلحاد والأغرب أنّه قد صدر عن "أخرق"(Insensé) . هذا الأخرق، الذي من حيث يدري أو لا يدري، "مسح الأفق بإسفنجته" وقرّر تاريخًا جديدًا لم تشهده الإنسانية من قبل، إنّه الرّجل الذي أتى من المستقبل، ولم تعرف رِِجلاَهُ الاستقرار على أرض البشريّة، هو الكائن اللاّراهني(Inactuel) ، إنسان ما بعد الموت(Posthume) ، إنّه الرّجل النبوئي الذي جاء ينشر أخبارًا عن زمان لم يأت بعد، زمان "موت الإله" إذ هناك ضرورة لأجل تجاوز الانحطاط، ولأجل استرجاع قيمة الإنسان التي ضاعت في "العدم"، وعلى ذلك فـ "موت الإله" نوع من إدخال عنصر المفاجأة، من إدخال الخلل والخلخلة إلى عالم الميتافيزيقا وإتلافه بعد ائتلافه، و"سيظل الإله ميتا" والتّاريخ الذي سيأتي بعد هذا الفعل « هو تاريخ أسمى مما كان عليه التّاريخ حتى الآن »[13]. لقد كان نيتشه في موقفه هذا عدميا عدمية كلية ومكتملة  (nihilisme achevé) لكي يحقق لحظة القلب الكلية وليس فقط "منعرج التّاريخ"، فالمنعرج من صلاحيات القلب القيمي للتّاريخ ولكن "العدمية النّاجزة" (Nihilisme achevé) هي لحظة تجاوز الفرد لكل قيم عصره ومصدر هذه القيم نفسه (=الأصل =الإله) ليؤسس معنى جديدًا لا فقط مجرّد استبدال آلي لقيم بقيم أخرى، وفي هذه الحالة سنضطرّ إلى إعلان رؤية مستقبلية تتمثل في نوع من إثبات الذّات، إذ ما الذي سيكتب تاريخ الوجود أحرفه عبر كتَاب القدَر غير الكائن الذي سيعيش الحياة ويعيش في اتحاد مع الكون القاهر، هذا العالم الجبّار الذي يعلن وِحْدَوِيَّتَهُ وتوحُّدَهُ في الإنسان « ستكون الحياة أكثر تسامحا إذا لم يكن هناك من إله ! (...) ستكون الحياة أكثر تسامحا إذا لم تكن ذات معنى متعالٍ... »[14] سيصبح العالم ـ الإنسان والعالم ـ أعمق تعبير عن الشّطحات الديونيزوسية التي أوصلت نيتشه أَعْتَى تأمّلاته في تفكير التراجيديا وهنا تغدو فكرة موت الإله وفكرة التّوحد مع العالم واحدة في كلّ الأحوال وسيكون أثرها إثبات الذّات الإنسانية بتحقيق الانوجاد.

أنطولوجيا البطولة في التاريخ التراجيدي:

هذا النّوع من الفهم الأنطولوجي لمسألة الألوهية التي تدعو، حسب نيتشه، إلى إقامة راية تعدد الآلهة يجعل من البطل نفسه (heldt/héros) إلاهًا، فلن يكون التّعدد هنا إلا بقدرما يكون عدد الأبطال، أي عدد الذين اتّحدوا مع العالم وبلغوا فجر ذواتهم (L'aurore du soi) فإثبات الذّات و"موت الإله" وتعدد الآلهة مسألة واحدة، وتصبح أطراف معادلتها تحمل القيمة ذاتها حتى ولو مات الإله، وبعد أن تَخلّص التّاريخ من الإله سيعرف مفهوما جديدًا لميلاده، هو أنه ستُولَدُ آلهة أخرى غير أنّها آلهة أرضية يرى كل منها في ذاته بطلا، ومَنْ غيرُ الإله يصنع المصير، يصنع التاريخ !!

هذا الإله هو الإنسان الذي أعلن اتحاده بـ"إرادة القوة"، فيصبح بذلك إنسانا غير الإنسان وربّاً غير الأرباب، وهنا جدير بالإله أن يسكن الإنسان بدل أن يسكن البنايات والهياكل فــ« ما تكون هذه الكنائس إذا لم تكن مدافن للإله وقبورا »[15] ولن يتمكّن من قتل الإله إلا الإنسان الأعلى (Le surhomme) بقتل الرّحمة فيه وقتل ما يحيل على الضعف في ذاته « ألا يجب علينا أن نغدو، نحن أنفسنا، آلهة كي نبدو جديرين بهذا القتل »[16]. تحاول الأنطولوجيا لدى نيتشه إثبات علاقة الإنسان بالعالم، بعدما كانت هذه العلاقة ملغاة تماما بواسطة الإله، ولكن مادام "الإله قد مات" فلا مانع من التّوحد بالعالم وفيه. يسكن الإنسانُ، بحميمية صوفية، العالمَ، بحيث لن يشغله غير ذاته عبر مسيرة البحث عنها، لأنّ العالم الآن قد تبرّأ من الوسائط "العالم الذي نحيا فيه اليوم لا إلهي، لا أخلاقي، ولا إنساني"، ولكن ما في الأمر أنّه بدل تقديس الإله أصبح العالم موضوعًا للقداسة، ففيه يقيم الإنسان ومعه يتوحّد، لأنّ الإنسان ليس نافيا للعالم بقدرما يجدّد دائما إعادة بنائه، فلا يمكن إذاً تصوّر انفصال الإنسان عن العالم، أليس ذلك خطأ فادحا ؟ « إنه يثير اشمئزازنا، ونُقَهْقِهُ لمّا نرى "الإنسان والعالم" موضوعين جنبًا إلى جنب، يفصلهما غرور الحرف الصغير "و" (واو)...»[17] بل الإنسان الفرد عالم مختلف عن بقية العوالم التي أجدر بها هي الأخرى أن تمارس اختلافها، إنّ رؤية المتوحّد تتأسس عبر الصورة التراجيدية التي تعكس عبث رميات النّرد (Coups de dés) وجماليات الصُدَفِ.

إن إله الـ: أنطو ـ ثيولوجيا (Le dieu de l'onto-théologie)، بتعبير هيدغر بعد كانط[18]  قد وضع حدًّا لحدود العناية الإلهية في الحياة، أو على الأقل محاولة الاستقلال عن سلطة متعالية لخلق عالمٍ جديد يتكوّن أفراده من الأبطال المتفوّقين بدل السَّكنى في عالم قطيعي مليئة مواشجاته بالحديث عن فعل الإله في إرادتهم وفي تاريخهم، ومن ثمة تمّ تدشين الإنسان البعدي عبر مفهوم البطولة، إذ يكمن حل لغز "البطل" في مفهوم الرّفعة والتسامي ليختلف مفهوم التراجيدي (tragisch/tragique) هو الآخر، وإذاًً لا يمكن فهم التراجيدي إلا بفهم التسامي، ومن قبله بفهم فكرة الهدم والتأسيس. أي أنطولوجيا تجاوز الذات والبحث عن خلاصها بالمفهوم النيتشوي الذي قام بقلب جذري.

المعنى الفنّي للتراجيديا في تاريخ الاختلاف:

تشترط فكرة التّطهير (Catharsis) عند أرسطو(Aristote)  انفعالين "منحطّين" هما: الرّعب والرّحمة، وبالتالي استلاب إرادة الإنسان، ويرى نيتشه بأنه لو كان أرسطو محقا فإنّ مصير الإنسانية كله في خطر علاوة على مصير الفن والتراجيديا، وإذّاك « يجب الحذر منها كما لو من خطرٍ شنيع وفضيحة شعبية »[19]. فالتراجيديا الأرسطية تفكك الإرادة وتخضع لمبادئ الخنوع والتبعية في حين يجدر بالفن أن يكون « أكبر منشطات الحياة، نشوة الحياة وإرادة الحياة »[20]  فالتراجيديا النيتشوية تحتل مكانة فائقة في تراتبية الفكر الغربي من حيث إنّها تشترط ألاّ يقل المستمع أهمية عن الممثل، بحيث ليس عليه أن يتأثّر ولا أن يكون ارتكاسيا بأي معنى من المعاني، وذلك يعني أن يكون هو الآخر مبدعًا، لا يقلّ إبداعًا عن الممثل[21]. وهو (نيتشه) هنا يقترب من كانط (Kant) في فهم التسامي (=الاعتلاء) (erhöhung/élévation) فيما يذهب "ميشال هار" (Michel Haar) إذ يرى كانط في « نقد ملكة الحكم» بأن « التسامي يتعارض مع الثبات والسكون الخطّي(...) كحركة يمكن مقارنتها بزحزحة كلّ الحدود (...) وحيث تنتج تتالٍ سريع للدفع والجذب. نيتشه هو الآخر كتب: يبحث الإنسان الديونيزوسي عن الوصول إلى نمطه (الشّاعر، الرّاقص) الغريزي وليس الممثل الواع بذاته »[22] وذلك عبر التّخلّي والتّحلّي، أي التّطهير، ففي كل إنسان روحَيْن، أبولون وديونيزوس والبطل هو من يصل إلى نشوة الأخير منهما، هو الذي يهزم مبدأ الفردية ويخترق الحجب(Voiles) ، لِيَنْسَ مبدأ التفرّد والمعاناة والآلام، إذ إن البطل التراجيدي هو الذي "يصارع ويقع في أحبولات وأفخاخ الإرادة الفردية" ومن جهة أخرى يرتكز على أمل نشور ديونيزوس وبعثه (auferstehung/résurrection) وعلى هذا يكون الفن هو وسيلة الخلاص « أمل مستقبل مكسور التخوم الفردية والإحساس المرِح بالوحدة المتجددة »[23]. يتجسّد المبدأ الديونيزوسي في التحوّلات (Umwandlung/métamorphoses)، فمن جهة تغيّر الانفعالات (من الفرح، الحزن، الضحك، اللّعب...) ومن جهة الميتامورفوزات  الشّاملة التي تحدث على مستوى الفكر: الجمل ـ الأسد ـ الطفل. فذلك مِمَّ تنطبع به ديونيزوسية زرادشت. وإننا لنجد ديونيزوس حتى في شخص كلّ منَّا ولكن لا يمكننا أن نَكُونَهُ، لا يمكن لأي منّا أن يكون ديونيزوس لأن ديونيزوس هو الآخر يختلف دائما عن ذاته، وعلى هذا فإنّنا نفهم عبارة نيتشه "عليك أن تكون ذاتكـ" (deviens ce que tu es)  على أنها دعوة إلى اقتباس الاختلاف من ذات الذات عن ذاتها. فزرادشت حينما يكون راقصا ليس ضرورة عليه أن يكون هو ذاته زرادشت اللّعُوب ولا حتى زرادشت الحزين. إن الاختلاف ينبع من عمق الذات التي تعيش "متاهة أريان" (Labyrinthe d'Ariane) مع "تيزي" (Thésé) آخَرُ ديونيزوس (L'autre de Dionysos) « كم تبدو هذه الأشياء القريبة والقريبة جدّا متغيرة ! (...) كم هو جميل ألا يكون [الإنسان] قد لازم "مسكنه" قد لازم "نفسه" (...) لقد كان خارج نفسه، لا ريب في ذلك ! إنها أوّل مرة يرى فيها نفسه بنفسه الآن، وكم يفاجئه ذلك ! كم من قشعريرة سرت فيه كان حتى ذلك الحين يجهلها»[24].

هذا هو البطل الذي يكتشف من ذاته أعماقا في كل مرة تكون "النقاهة" (Convalescence) تحمل دلالة العودة إلى الصحّة الكبرى بعد الحنين الذي يُشعِر الإنسان بالغربة وآلام البعد والابتعاد عن موطن عَيْنِ الذّات، إنّه دائما (أي النّـقِهle convalescent ) في عودة إلى ذاته[25] وإلى الأرض، ولهذا اختار حَيَوَانَيْهِ أفعوانًا* لصيقًا بالأرض ليحيَ دائما على سطحها ولا يفارقها ونسرًا يرمز للكبرياء، فـ «...لا يمكن للتاريخ أن يُدعمَ إلا من طرف الشخصيات القوية، أمّا بالنسبة للضعيفة منها فعلى التّاريخ أن يخلص إلى سحقها ومحقها »[26].

إنّ العمل الذي كرّس له نيتشه جهده هو محاولة التنبّؤ بالشخصية البطولية، التي تتجاوز كل ما هو منحط في الإنسان ذاته. إنّ إنسان نيتشه هو الذي يبحث دائما عن إعطاء المهمة للأجدر منه، ذلك الذي يتجاوز الإنسان المنحطّ فيه، و ما تلك سوى قراءة لمستقبل الإنسانية، وللإنسانية كصيرورة تاريخية، أنطولوجية لا تعترف بشيء اسمه "سوء القدر" بل تجعل كلّ شيء في صالحها لتعيش هذه الحياة في أمل « إنّ عبارة "الإنسان الأعلى" تحيل إلى نمط من النّاس ذوي مظهر هو قطعة من أعظم الخطوط الرائعة، نمط مخالف لنمط "الإنسان الحديث" وللإنسان "الطيّب"، مخالف للمسيحيين والعدميين (...) إنّها كلمة ذات معنى عميق قد تُفهم على أنها متطابقة مع القيم التي يعمل زرادشت على الدعوة لها. إنه نوع أعلى للإنسان، نِصفُ قدّيس ونصف عبقري...»[27].

ليس الإنسان البطل نموذجا أو صورة أيقونية في عالم مثالي، إنه ابن الإنسان المنحط ويخرج من صلبه، نتيجة صيرورة أنطوـ تاريخية* وهذا هو سِرُّ تحوّل زرادشت من الجمل أسدا ومن الأسد طفلا، رمز "العقل الحر" « ...هذا العقل الحر سيأتي في يوم ما، وأنا آخِرُ من يشك في حقيقة قدومه، (...) إنّ ما يعنيه "العقل الحر"، في الواقع، إنما هي أشياء وكم من أشياء لم تعد تقلقه...»[28]. إن "العقل الحر" لا يولد فجأة وإنّما ينضج معدنه بعد مرور من الزمن ما يجعله جديرًا بأحقية التّسمّي بهذا الاسم، ذلك أنّه حتى في هذا الزمان لم يوجد إلا رجل الكوميديا، مهرّج الإنسان، وما زالت الحياة تفتقد للشخصية التي تعرف كآبة الحزن وأمل المستقبل. إنه ليس رجلَ سياسة يقود الدّولة وقطيعها نحو الخلاص وإنما يسعى لوحده إلى بلوغ هذا "الخلاص" خلاصا متميّزا ومختلفا «...نحن العقول الحرة القادرة، المقتدرة، والمتوهّجة الجديدة، على استفزاز وإثارة تقديرات جديدة وتقويمات من أجل قلب "القيم الأبدية الخالدة" نحن المبشّرون، نحن رجال المستقبل (...) الذي يدخل طُرقا جديدة وسبلاً (...) نحن الذين نضع حدًّا للعبثية التي تسمَّى بـ"التّاريخ"...»[29]، ونعبّر عن حياتنا بتجربة القدر الجمالية وتجربة الصدفة والاختلاف.

 

 

 ---------------------------------------------

[1]  نيتشه (ف): هكذا تكلم زرادشت، ترجمة: فليكس فارس، دار القلم، ط1، بيروت، 1938، §5، الوصايا القديمة والوصايا الجديدة، ص 225.

[2] Voir : Nietzsche (F) : Histoire et Fatum, in : Ecrits autobiographiques (1856-1869) traduction de : Crépon (M), P.U.F, coll/ Epiméthée, 1er édition, Paris, 1994.

[3]  نيتشه (ف) : هكذا تكلم زرادشت، المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[4] Löwith (K) : De Hegel à Nietzsche, traduit de l’allemand par: Rémi Laureillard, Gallimard , Paris,1969, P 327.

[5] Nietzsche (F) : Humain trop humain,(Opinions et sentences mêlés et le voyageur et son ombre), traduction d’Henri Albert, revue par : Angèle Kremer-Marieitti, Librairie générale  française, Paris, 1995, § 42, P 73.

*  نسعى هنا إلى اعتبار أن المدينة هي مركز التاريخ والأرضية الخصبة التي تجني منها الإنسانية أحلى ثماره، في حين يرفض الإنسان النيتشوي مشاركة مثل هذه المواقف. إنه يقف على هامش التاريخ، عازلا نفسه في صمت ووحدة.

*  يقترح نيتشه التاريخ النقدي بدل التاريخ التذكاري والتاريخ التقليدي، فالأول يسعى إلى استعادة النماذج الكبرى المنتسبة إلى الماضي ومن ثمة الاقتداء بها وأخذ العبرة منها، أما الثاني يهدف إلى إضفاء طابع التبجيل والقداسة على الشخصيات والأحداث.Voir: Nietzsche (F): Seconde considération intempestive,traduction d’Henri Albert, édition Flammarion, Paris, 1988, §§3.5.6.7.8.    

[6] Ibid. § 3, P 95.

[7] Heidegger (M) : Chemins qui ne mènent nulle part, traduction de Wolfgang Bvokmeir, Nouvelle édition, 1962, P 310.

**  تمتدّ جذور فكرة الألوهية إلى هيراقليطس حيث أعطاها طابعا رمزيا غامضا يصعب الرّهان على حلّ لغزيته « الآلهة هي النهار والليل، الشتاء والصيف، الحرب والسلام، التخمة والمجاعة، لكنه تغيّرٌ أشبه بالنّار التي عندما تختلط بدخان البخور تتسمى بحسب رغبة كل إنسان »(8) هيرافليطس: جدل الحب والحرب، ص 63،.هذه =المواصفات التي يمنحها هيراقليطس للآلهة تعطيها طابع القدرة على الفعل والترك والسيطرة ولكنها أيضا خاضعة للتصوّر الذي يحصل للإنسان، فالحياة وفي كل مظهر من مظاهرها تصبح إلهاً ما يدفع بالإنسان إلى تصوّر الآلهة على صورة معينة. لكلٍّ إلهه يعني أن كل إنسان يتصوّر الآلهة حسبما يذهب فكره وحسبما يرى صورة الحياة والطبيعة وذلك ما لا يسمح بتأسيس صورة كاملة وموحّدة عنها (عن الآلهة)، وبالتالي قد يخلق كل فرد الإله وفق ما يأخذه تفكيره بدل أن تخلقه الآلهة وفي الأخير ينتهي إلى عالم مسكون بالغموض والظلمة يدفعه لأن يكون عدميا بصدد مثل هذه الإشكالات فـ « معظم ما هو إلهي يفلت من نطاق التسليم به بسبب عدم الإيمان» هيراقليطس، نفسه.

[8]  أنظر: دولوز (ج): نيتشه والفلسفة، ترجمة: أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدّراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1993، ص31.

[9] Nietzsche (F) : Le Gai savoir, traduction d’Henri Albert, librairie générale française, Paris, 1993,  §357, P377.

[10] Voir : Nietzsche (F) : Aurore, traduction d’Henri Albert, Librairie, générale française, Paris,1995, §4, P36.

[11] Heidegger (M) : Chemins qui ne mènent nulle part, ibid. P .261

[12] Nietzsche (F) : Le Gai savoir, Op.cit.

[13] Ibid. §125, P230.

[14] Nietzsche (F) : Aurore, ibid. §99, PP 98.

[15] Nietzsche (F) : Le Gai savoir, ibid. §125, P 230.

[16] Ibid. P 229.

[17] Ibid. P 352.

[18] Ricœur (P) : Le conflit des interprétation (Essai d’herméneutique), Edition du Seuil, Paris, 1969, P 436.

[19] Nietzsche (F) : La volonté de puissance,traduction d’Henri Albert, Librairie générale française,Paris, 1991, §363, P 410.

[20] Nietzsche (F) : Ibid.

[21] Voir :Nietzsche (F) : La Naissance de la tragédie, traduction de Jean Mornold et Jaques  Morland, Librairie générale française, 1994 .

[22] Voir : Haar (M) : Nietzsche et la métaphysique, Gallimard, Paris, 1993, P 225.

[23] Voir : Nietzsche (F) : La naissance de la tragédie, ibid. §10.

[24]  نيتشه (ف): إنسان مفرط في إنسانيته، ترجمة: محمد الناجي، إفريقيا الشرق، (ب ط)، المغرب، 1998، المقدمة، § 5، ص 13.

[25]  Heidegger (M) : Qui est le Zarathoustra de Nietzsche, in : Essais et Conférences,traduction d’André Préau et Préfacé par : Jean Beaufret, Gallimard, Coll tel, Paris, 1988, P 118.

*  الأفعوان دلالة بليغة معناها الاتحاد بالأرض، سكنى هذه الأرض والتوحّد فيها، فالكلمة اللاتينية (Serpens) والفرنسية (Serpent) مشتقة من صفة كل ما يحبو على الطريق ويـهـمّ، كل ما يدبّ فيها بحيث يكون جسده لصيقا بجسد الأرض.Voir Kremmer-Marieutti (A): Nietzsche, la métaphysique et les sciences =cognitives ? in: Revue tunisienne des études philosophiques, (Numéro double), N°28/29, 16eme Année, 2001, P31. 

[26] Nietzsche (F) : Seconde considération intempestive, ibid. §5, P 116.

[27] Nietzsche (F) : Ecce Homo, Pourquoi j’écris de si bon livres,  in : Œuvres, T II, traduit de l’Allemand par : Daniel Halévy, et Robert Dreyfus, Traduction révisée par : Jaques le rider, Edition Robert Laffont, Paris, ibid. §1, P1147.

*  تاريخية هنا لا تعني انضمام الإنسان إلى حركة التاريخ وإنما معناها تزايد الاعتلاء والبطولة والإقدام لديه مع مرور الزمن وازدياد المغامرات التي يخوضها الإنسان، إنها تأخذ معناها من حيث إن الإنسان يحيا تجربة المعيش ولا يبالي بما تؤول إليه.

[28]   نيتشه (ف): إنسان مفرط في إنسانيته ـ المقدمة ـ ص 12 ـ §12.

[29] Nietzsche (F) : Par-delà  le bien et le mal, traduction d’Henri Albert, Librairie générale française, Paris, 2002, § 203, P 205.

 

 

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة