
عن الفلسفة و تعليميتها
الأستاذ: المرحوم البخاري حمانه
قسم الفلسفة ،جامعة وهران
من أرشيف الملتقى الوطني: تعليمية الفلسفة (2002)
مخبر البحث: الأبعاد القيمية للتحولات لبفكرية والسياسية بالجزائر
لأن الفلسفة أولا، تأسيس للكينونة و المعرفة فإنها أساسا، و كما يلاحظ أحد الفلاسفة المعاصرين (1)، إيداع للمفاهيم الجديدة. و لأن المفاهيم ( concept) ليست شيئا أخر سوى أفكار مجردة، محددة أو متعينة من خلال الكلمات 2، فإن ماهيتها هي ماهية الفكر ذاته، الذي لا يأخذ حياته، و كما يلاحظ لوي لافيل(3)، « إلا من خلال تلك الحركة المزدوجة، الذائبة و المتجهة دوما من المفهوم إلى الواقع .. و من الواقع إلى المفهوم »وصولا إلى بلورة الواقع عن طريق المفهوم إنما هو في النهاية تاريخ الفكر . . تماما كما أن تاريخ هذا الأخير ليس سوى تاريخ الإنسانية، كما يؤكد هيغل (hegel) ذلك .(4).
و لذلك كانت التعليمية (Didactique) الفلسفة، أولا و أخيرا، تعليمية لا للفلسفة، بل للتفلسف (5)، وللطريقة التي يبدع بها المفهوم، وموضوعه، وينقلان بعد ذلك، من خلالها من شخص أو أشخاص، إلى أشخاص آخرين.
فلا فلسفة . . و لا معرفة، أيا كان مجالها، بدون تعليمية . . و بدون معلم .. و لا عصامية بالتالي في الفلسفة (philosophus autodidactus) كما أكد ذلك سقراط . . و ذلك لسبب بسيط، و هو أن مثل تلك العصامية لا يمكن، و كما تؤكد ذلك قصة حي ابن يقظان(6)، و قصة الصنم (7)، والتي سبقتا، أن تصل بصاحبها إلى مثل ذلك الإبداع الفكري، الذي يشكل، و كما سبق أن أشرنا، جوهر الفلسفة . . وحقيقتها.
من هنا تكمن أهمية تعليمية الفلسفة، و صعوبتها القصوى كذلك، و ذلك ما أكده أفلاطون)8(، ومن بعده جاك ميريتان (9) و غيره.
و لأن الفلسفة ثانيا، لا تعتبر بالتالي أرقى خلاصة للفكر و للثقافة الإنسانيين ، إلا أن و كما يؤكد بول ريكور (10) هي المسؤولة الأولى فقط عن إيداع المفاهيم بل و عن حمايتها . . و عن تدفقها من الأمة المبدعة لها نحو الأمم الأخرى لتحولها إلى مفاهيم مشتركة بين كل أبناء الإنسانية ولتضفي عليها صفة العالمية (11).
لذلك كانت تعليمية الفلسفة واحدة من أبرز الطرق المفضية إلى العالمية التي ليست شيئا آخر وبالتالي سوى الفكر في أبعاده الكونية . . تماما كما أن الإنسانية ليست و بدورها سوى اللحظات المبدعة لمثل ذلك الفكر.
ولن الفلسفة ثالثا، وليدة الممارسة الفكرية تماما مثل العلم (la science)، فإنها لا تتصور، مثله، إلا وبالإنسان من أجله، لذلك فإن مثل تلك الممارسة الفكرية لا يمكن حين تكون جديرة بهذه الصفة، أن تنفصل عن الأخلاقية، كما يلاحظ "مان دي بيران" (12)
ولذلك أيضا فإننا نعتقد أن من أبرز مهام تعليمية الفلسفة، و هي التعليمية التي يجب أن يمتد تدريسها إلى كل الاختصاصات العلمية والأدبية على حد سواء(13). هي تلك المتمثلة في العمل على تكامل العلم و الفلسفة، و \لك من خلال دفع هذه الأخيرة للعلم، إلى التخلي عن حتميته المطلقة، و إلى الالتزام كذلك في الوقت ذاته بالأبعاد الروحية و المادية للإنسان، و من خلال دفع العلم للفلسفة إلى استلهام مناهجه، وصولا إلى ربطها، و بصورة أعمق بالإنسان و بواقعه.. و إلى الخروج بها بالتالي من توهيماتها المجردة.. التي لا علاقة كبيرة لها تذكر بمثل ذلك الواقع.
ذلك ما فعله فلاسفة اليونان الأوائل من أمثال طاليس و أنا كسيماندر، و هيروقليطس (héraclite) وبارميندس (parménide) . . إلخ، ال\ين استلهموا الطبيعة لبناء مذاهبهم الفلسفية الإنسانية تلك، وذلك ما فعله كذلك رواد العلم الحديث، و ذلك من أمثال أنشتاين، و لوي دوبري(14)، وجاك تستار (15) .. و غيرهم، وصولا إلى فهم أفضل للإنسان.
ولأن الفلسفة رابعا، قوة فكرية تاريخية متجددة و فاعلة في قضايا عصرها.. و عاملة دوما على إيجاد الحلول الحقيقية و السليمة لها، فإنها كانت دوما، ولا تزال إلى اليوم المحركة الأولى لكل الحركات الإصلاحية والثورية والسياسية والإيديولوجية التي عرفتها البشرية عبر تاريخها الطويل والمضطرب.. وهذا ابتداء من الليبرالية.. والاشتراكية والماركسية، وانتهاء بالليبرالية الجديدة وبالعولمة المجسدة، أو المتجسدة، من خلالها.
لذلك اعتبر أفلاطون الفلسفة حارسة المدينة (polis). ولذلك أيضا.. لم يلتزم الفلاسفة بالحياد. أو بالانزواء أمام شؤون مدنهم، بل تحملوا من أجل ذلك الكثير. وهذا ابتداء من ابكتاتوس Epictete وأنا كساغوراس Anaxagore وسقراط.. وأفلاطون والفارابي وابن خلدون وابن رشد، وانتهاء بكل من سبينوزا spinoza.. وجون لوك J Locke وهوبز Hobbes.. وروسو وفولتير ومنتسيكو Montesquieu وجان بول سارتر، وكار شميت K. Shmit.
ولذلك أيضا، فإن تعليمية الفلسفة يجب أن تكرس ابستيمولوجيا ومعرفيا، مثل تلك المواقف، النقدية، من السياسة و من السياسيين، وصولا إلى حماية شؤون المدينة وإلى جعل السياسة أخلاقية .. وليس الأخلاق سياسة كما لحظ (E.Kant (16 ، وكما يحدث ذلك، مع الأسف منذ فجر التاريخ.
وإن الفلسفة خامسا، و أخيرا و ليس آخرا، هي كل ذلك.. فإن البحث في تعليميتها، الذي اختاره ملتقانا هذا وكتابنا هدا، كموضوع له.. يأخذ كل دلالاته، لا من خلال مثل هذا الاختيار الموفق، فحسب، بل ومن خلال الحلول الفعلية.. والفاعلة المنتظر منكم تقديمها لتفعيل تلك التعليمية.. التي تعاني اليوم من إشكالات، ومن مشاكل في معظمها مفتعلة، خاصة من طرف الذين لم يتولوا، أو يستولوا، طيلة ما يقرب أربعين عاما، على أقدار الجزائر المستعيدة لاستقلالها، إلا لكي يصلوا بها، نتيجة لتهوينهم الفكر والثقافة، و لإهانتهم أصحابها، إلى النهاية المفجعة التي تتخبط فيها اليوم.. والتي نكرر أنه لا خلاص لها إلا باستعادة الفكر، في هده الديار، وفي ديار كل العرب، لدوره ممثلا أساسا في عقلنة واقعنا في وقعنة عقلنا.
---------------
المراجع
- g. Deleuze : qu’est-ce que la philosophie ? Ed. de minuit. 1991.
- burloud : pensée conceptuelle. P. 47 in dictionnaire de la langue philosophique. P. foulquié. P 113.
- Lavelle : traité de méthodologie analytique. PUF. 1962. P162.
- Hegel : la raison dans l’histoire. Coll. 10/18, Paris, p162.
- Kant : annonce des programmes de leçons. Trad. Fr. Fichani, Paris, J. Vrin 1973, p.69.
- Critique de la raison pure. Trad. Fr. a. Tremesaynes et B. pacaud. Paris. PUF, 1968. Pp 560-564.
- أحمد أمين، حي ابن يقضان، لابن سينا و ابن طفيل و السهر وردي، دار المعارف، القاهرة، 1959، ص 10_13 و ما بعدها.
Garcia Gomes : un cuento, arabe furente comun d’ibn Tofail y de gracian , Revista de arch. Madrid, 1926.
Platon : la république. Diverses éditions.
Martin : réflexion sur l’intelligence. Ed. Thomas, 1924. P 327.
Ricœur : discours devant les membres de la fonction Inomory.
Kyoto. Japon, novembre 2000.
Alain : Propos. Bibliothèque de la Pléiade, Paris 1956, p 923.
Maine de Biran : Journal, Biblio. Vrin, Paris, 1819, pp 20_31.
البخاري حمانة: دفاعا عن الفلسفة، مجلة الثقافة، الجزائر، العدد 94، 1986.
De Brglie. Physique et microphysique. paris. A. Michel, 1943. Conclusion.
Testart : civiliser la science. In le Monde Diplomatique. Mars-aout, 1998.
Kant : Vers la paix perpétuelle. Paris, Gallimard, 1991, pp 75-98.
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 05 مارس 2021