مهيبل عمر مفكراً  ومترجماً

 

المؤلف : الباحث معروفي العيد

المؤسسة: طالبة دكتوراه، قسم الفلسفة، جامعة الجزائر2

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مخبر البحث  : /

 

 

 

 

 

 

1/ السيرة الذاتوية:

هو مفكر و كاتب جزائري أكاديمي بجامعة الجزائر 2، منشغل بالتأويلية و الأنطولوجية  و التفكيكية والبنيوية، ولد بمدينة جيجل شرق الجزائر سنة 1957م، نال شهادة ليسانس بالجزائر ، من جامعة بوزريعة ، ثم نال شهادة الماجستير من جامعة دمشق، حول البنيوية في الفلسفة الغربية المعاصرة ، ثم نال الدكتوراه من جامعة الجزائر حول إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة، وله عدة مؤلفات وترجمات لأهم النصوص الفلسفية المعاصرة. 

أ/ مؤلفاته:

1-  إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية المعاصرة، الدار العربية للعلوم، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005.

2-  البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، الطبعة الثالثة، 2007.

3-  من النسق إلى الذات، الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، بيروت، 2007.                    

4-   كتابات خارج النسق، دار الروافد الثقافية، ابن النديم للنشر والتوزيع، وهران – الجزائر- ط1 2020   

ب/الترجمات

1-  كارل أوتو آبل: التفكير مع هابرماز ضد هابرماز، الدار العربية للعلوم، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005.

2-  جان مارك فيري: فلسفة التواصل، الدار العربية للعلوم، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2006.

3-  جان غراندان: المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2007.

4-  جاك دريدا : أحادية الآخر اللغوية، منشورات الدار العربية للعلوم .بيروت 2008

5-  يورغن هابرماز : إتيقا المناقشة و مسالة الحقيقة ، منشورات الدار العربية للعلوم، بيروت2010

6 -  سبينوزا : رسالة في السياسة ، مؤسسة الفنون المطبعية (موفم)، الجزائر1995

ج/المقالات

هناك مقالات كثيرة في المجالات التالية:نزوى – عمان، المنتدى – دبي، كتابات معاصرة – بيروت، الفكر العربي المعاصر – بيروت، مدارات – تونس،

دراسات عربية – بيروت، دراسات فلسفية – الجزائر.

بالإضافة لمقالات باللغة الفرنسية

 

همس الكتابة، أو التفكير مع الذات المهيبلية: 

من يقف متأملاً في الذات المهيبلية،  لابد أن يتكلم همساً.  لا نخفي سراً، إنّ الكتابة حول الذات المهيبلية، تدفع المرء إلى التهيب والذعر في الآن. وربما مردّ ذلك إلى عبقرية مهيبل المتفردة من نوعها، هذا من ناحية، من ناحية أخرى هو جُرأة مهيبل في انتقاء النُصوص الفلسفية الغربية الحديثة منها والمُعاصرة، وتفكيكها بطُعم بنيويٍ تأويليٍ في الآن.  وأسمح لذاتي البوح، أن الفلسفة في الجزائر  وإن كانت تُوصف بالضبابية والهامشية، وأحيانا تُعاني اليُتم الفلسفي، أو في جانب آخر، تكاد  تكون دامسة في الظلام.  فإن جدارة مهيبل تكمن في أنه استطاع بعبقريته الفُولاذية أن يُموقع لذاته موقعة مركزية في عالمنا العربي،يُجادل بإزائها كُبريات النُصوص والمُشكلات الفلسفية لأعلام الدرس الفلسفي الغربي المُعاصر. " فوكو، دريدا، نيتشه، غادامير" .  إنّ الفلسفة كما يصِفُها غادامير لابد أن تكون فلسفة حِوارية لا فلسفة نسقية مُتعالية، قِوَامُها التخاطب مع النصوص التُراثية والفلسفية معاً. ولعَّل القارئ الفذ يُلاحظ هذه التوصيفة في المُطارحات الفلسفية التي صاغها د. مهيبل في كتاباته المختلفة. وللمفكر مهيبل الكلمة:" ومع أنّ هذه القراءات تبقى، كما ذكرت، مجرد رؤى تحليلية ونقدية وليست أنساقاً معرفية مُنغلقة على ذاتها أو قناعات دوغماتية ثابتة هدفها الأولي طرح بعض الأسئلة المتعلقة بالفكر المعاصر، وخلخلة بعض البديهيات التي أدخلت ساحتنا الفكرية في فترة بيات شتوي طويلة ومُظلمة، بل حالكة الظلام،..  فهـــي تعبر عن رؤية باحث جزائري  ينتمي إلى جيل اليتم فلسفياً، أي ذلك الجيل الذي تنطبق عليه مقولة جون لوك من أن عقله صفحة بيضاء، فلكي تموقع راهنك الفلسفي عليك أن تباشر حفرياتك وسط رُكام كل مكوناته  تقريباً لا تمنحك نقطة ارتكاز نظرية يمكنك الانطلاق منها، من هنا صعوبة أي مُحاولة لمأسسة فكر نقدي، هدفه دفع عجلة الإبداع في الجزائر لإخراجنا من منطقة الصقيع التي نقبع فيها إلى من منطقة فيها دفء وضوء.  [1]"

 أعُود مرة أخرى، للقول أنه ليس يسير، كتابة مقدمة أو تمهيد لمفكر بحجم د. مهيبل، فهي كالسهل الممتنع ومغامرة فكرية نتائجها غير واضحة المعالم. مع العلم أن فكر الرجل لم يقف عند الترجمة فحسب، بل توغل داخل البُنى التي شكلت الفكر الغربي المُعاصر، تأليفا وتفكيكاً وتأويلاً وترجمة. ممكن أن نستحضر هاهنا قولة الفيلسوف الفرنسي  هنري برغسون :" كيف لأفكار من نارٍ أن تحتويها ألفاظ من ثلج".  

على كلٍ، فإن الفكر الفلسفي عند د. مهيبل يمكننا موقعته، ضمن إطار الفلسفة الغربية المعاصرة.  لكن ينبغي التأكيد، أنه ليس تقليد بالمعنى الحرفي للكلمة، بل هو إعادة إنعاش العظام الرميمة باللغة الحفرية للكلمة – كما صاغها من قبل الأركيولوجي ميشال فوكو. أو إعادة تقويض اللامفكر فيه بلغة التفكيكي جاك دريدا.  لأن مهمة الفيلسوف بحسب د. مهيبل هي :" اختصار الأبعاد الزمانية المكانية في بوثقة واحدة يجعلها مطية لبلوغ حقيقة الإنسان الماورائية أو الميتافيزيية، والفيلسوف الأصيل هو ذلك الذي يغوص مباشرة في موضوع تفلسفه غير آبه بما حوله، لأن موضوعه يملأ عليه وجوده، ثم أنّ الفيلسوف الأصيل، هو ذلك الذي يتمكن في وقت من الأوقات من وقف حركة الفكر الإنساني، حتى يتمكن من إعادة بنائه وفق مشيئته، وفق معاناته الخاصة، الفيلسوف الأصيل هو ذلك الذي تكون أفعاله أكثر قابلية للمروق والثورة معا، أكثر خرقاً لقوانين العقل والمعقولية المسيطرة في الهرم الثقافي لمجتمع من المجتمعات". [2]

مع ذلك، هُناك نقطة جوهرية، ينبغي الإشارة منذ الآن، لماذا الدكتور مهيبل بدأ بنيوياً، ثم تحول فيما بعد إلى ما بعد البنيوية؟ وبالموازاة مع الفيلسوف فوكو  الشاب الذي انبهر في بادئ الأمر بكل ما هو بنيوي ثم ثار  وانقلب إلى ما بعد البنيوية؟يجيبنا دكتور عمر مهيبل قائلا:"  لقد كان انشغالي الفلسفي الأول متمركزا حول الفلسفة البنيوية بما أنها كانت تُمثل الإغراء المعرفي والمنهجي الأبرز في مرحلة الستينات والسبعينات في الغرب بعامة، وفرنسا بخاصة، ونهاية السبعينات ومنتصف الثمانينات في البلاد العربية وكان خُلاصتها كتابي البنيوية في الفكر المعاصر... والذي أصبح من أهم الكلاسيكيات المعرّفة بهذه الفلسفة على امتداد  الساحة العربية برمتها. فقد تمثلت البنيوية وأفدت منها أيما إفادة، وبِخاصة لجهة الصرامة اللغوية والانضباط المنهجي الذي يطبع ميراثها المعرفي المتنوع، ومع ذلك فقد بقي نهمي الفلسفي على أشده، فقد توصلت بعد رحلة حوارية معها إلى قناعة مؤداها أن البنيوية بلغت أفق انسدادها ولم يبقى لديها ما تقدمه كإضافة سوى الاجترار   واسترجاع ذكرى بطولات آلا نروب غرييه  Alain Robbe Grillet  ضد سارتر، ومغامرة فوكو في بارات سان جيرمان المخصصة للمثلين، والاحتفاء باكتشافات ليفي ستروس للقبائل البدائية في أدغال الأمازون "[3]  

إن اهتمام د. مهيبل بدريدا، يفوق اهتمامه بأي فيلسوف آخر، وهو  اهتمام يرتد إلى فترة مبكرة من حياته  الفكرية، ولا شك أن اكتراث مهيبل بأعمال دريدا خاصة ما يتعلق منها : " بوضع فصل  في غاية الأهمية في كتابه " البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر "  مؤاده  :"  نحو إستراتيجية جديدة للتفكيك عند دريدا" ثم هذا الفضول دفعه إلى  ترجمة أحد أهم  كتب دريدا وهو كتاب: " أحادية الآخر اللغوية أو في الترميم الأصلي Jacques Derrida. Le monolinguisme de l'autre    "،  كما يُمكننا أن نُعلم القارئ أنه قد إنتهى حالياً من ترجمة كتاب جاك دريدا " وداعاً لفيناس"

إنّ عودةretour د. مهيبل عمر، إلى دريدا  تُوحي بشكل أو بأخر ،  دلالة العودة هذه ــــــ كما يبوح بذلك في مقدمة الكتاب ـــــــ  فهي ليست عودة تفكيكية ولا عودة بنيوية، وإنما هي عودة بإمكانها إدراج دريدا على محك التنقيب الهرمينوطيقا.   وإمكانية  Possibilité  إدخاله  مملكة المعنى، المرجع، الدلالة، وبالمرة إخراجه من أقنوم اللغة الباحثة عن انسجامها داخل غرائبية لفظية متعبة ، مرهقة تكاد أن تجعل من الإنسان رمزاً ضمن قائمة مرموزاتها الكثيرة.  يقول دكتور عمر مهيبل:" والواقع أن شعوراً غريباً انتابني وأنا أُترجم هذا النص، جعلني أسعى إلى فتح صندوق " الأسئلة المُقلقة التي لم يود دريدا إخراجها إلى النور وأهمها: ما هي الجزائر التي يتحدث عنها دريدا؟ وما هي فرنسا التي يتحدث عنها؟ ما موقفه الحقيقي مما كان يجري في الجزائر عدا بعض الإشارات العابرة حول حرمان العرب والبربر ( الأمازيغ)  من الإمكانيات الكثيرة التي كانت متاحة حصرياً للفرنسيين الأُصلاء؟ ما موقفه مما  به يهود   الجزائر للجزائر؟ ما موقفه الحقيقي، وغير البرغماتي، من اللغة الفرنسية؟ لماذا ينظر إليها بما هي اللغة الوحيدة التي يتحدثها، ومع ذلك فهي ليست لغته الأم ( الأصيلة) كان يفترض العبرية أو العربية إلا أنه لم يتعلمها، بل لم يتمكن من فعل ذلك فيما يقول.[4]  "  

إنّ الغاية أو لنقل الدافع الفلسفي من خلال هذه الدراسة، يمكن إدراجه في البعد الهرمينوطيقي، أي هي دراسة في اللامفكر فيه، في فلسفة دريدا. أو ما اصطلح عليه د. مهيبل. بإعادة إنعاش مواقف دريدا في ضوء المعطيات الهرمينوطيقية المتعلقة بالقصد.  المعنى، الدلالة، لاستنطاق واكتشاف أعماق الهاوية التي ما انفك دريدا يذكرنا بحضورها في حياتنا الاجتماعية، السياسية واللغوية، تحديداً. ذلك أن أغلب الدراسة المُتأخرة وبخاصة تلك تنحو منحى هرمينوطيقياَ قد وضعت دريدا أمام امتحان معرفي في غاية القساوة، إما لجهة الغموض الإبلاغي واللغوي الذي يطبعها. وهو ما كان ينعته د. مهيبل بالكتابة الغرائبية عند جاك دريدا.  والتي لا هم لها سوى البحث في انسجامها الأفقي الشكلاني، وإما لجهة المضامين التأويلية والأنطولوجية الكامنة في أعماقها الراكدة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: اللغة، الآخر، الأنا، التشتيت ، اللامركز. الهامش، الحضور، الغياب، الميتافيزيقا، اليهودية، الفرنسية، العدم. الخرق، الاختراق، البنية، النسق.[5] 

2- مهيبل، قارئاً ومؤولاً  للفلسفة الألمانية:

يقول د. مهيبل في كتابه الهام" كتابات خارج النسق" :" هذه التجربة الفِينومينولوجية الحية التي تجعل من المعرّفة مُعاناة فكرية راقية  قادتني داخل المجال الفلسفي الألماني ذاته إلى تلمس تجربة أحد أهم الفلاسفة المعاصرين وهو مارتن هايدغر  Martin Heidegger ، إذ أن هناك خيطا سحرياً  رفيعاً يربط هايدغر بهوسرل وهو خيط اللغة دائما، فقد استطاع هايدغر أن يدبب تجربة كيركغارد Kierkegaard  الممهورة بالحزن والألم والمواساة داخل فينومينولوجيا هوسرل الساعية إلى الانفتاح على بواطن العالم الداخلي للكائن دون أن تتبلل بدموع مأساة خطيئته، فأنتج لنا أنطولوجية أساسية أو شاملة وهو الترميز الأكاديمي لفلسفة هايدغر، أنطولوجيا عاتية من لا يمكنك فهمها واختراقها إلا بما يشبه العراك المستنزف معها، أنطولوجيا تنفتح على ذاتها الذاتوية المثتناهية بمقدار ما تنغلق على الآخر غير المتمرس على ركوب المخاطر وتلمس أوجاع الكينونة المؤدية إلى العدم، ومع ذلك، وبالرغم، الألم فهي تدربك على مران النفس ورؤية التفكير، وتجعلك أكثر دراية بدروب الكينونة الوعرة وأكثر استعداداً لتقبل شظف العيش داخل مساكنها التي تشبه مستكن الفلاحين في الغابة السوداء. [6]  "

 ولقد وُفق د. عمر مهيبل إلى حد بعيد، في تحديد العلاقة المتينة والمتباينة  لأهم القضايا التي تطرقت إليها الفلسفة الألمانية المعاصرة ككل. بادئ ذي بدأ  القضايا الفينمينولوجيا التي افتعلها هوسرل، والأسئلة المقلقة والمحفزة  التي  اخترقتها  أنطولوجيا  هايدغر .  وما استأنفته  الهيرمينوطيقا مع  هانس جورج غادامير   في الإستدارة الهرمسية  للقراءة التراث وإعادة بناءه من  جديد.   وقد اختزل مهيبل  عمر، هذه  القِراءة  في ثلاث تمشكلات أساسية هي كالآتي:

أولا:  من الفينومينولوجيا إلى الانطولوجيا

إنّ مُناورة هوسرل داخل هذا الحيز الضيق أوردت عبقرية منهجية وفكرية، بحسب عمر مهيبل . كونها لم تقف عند حدود الوصف الخاص بظواهر الأشياء ، بل راحت تسارع بحثها في ماهيتها الأشياء ذاتها. [7]   فالطموح الأول لفينومينولوجيي، هو أن يتعلم النظر، لاّ شيء سوى النظر. - بعبارة هوسرل.

شريطة أن لا يصدر أحكام بل يكتفي بالمشاهدة و الملاحظة  فقط، حتى يتسنى له فيما بعد الإحاطة بماهية الأشياء ذاتها ،إذ نحن لا نرى العالم بل نرى معانيه فقط ، و من هنا يبدأ مهامنا في الوصف فقط. ثم تخطوا هاته العملية الممنهجة طريقها إلى طريق القصدية intentionnalité ،  والتي بدورها يتحول فيها الشعور من عالم التصوير لشيء، إلى عوالم الإحساس بشيء ذاته .[8]

 وهذا الأخير قد وصفه مهيبل بشعاع تكافئي:

ذات        بعث شعورها إلى الموضوع                    موضوع 

ذات      ينعكس الشعور← من الموضوع إلى الذات      موضوع

 

يعرفه مهيبل بالقول:" بأنه شعاع ينبعث من الذات إلى الموضوع ، ثم يعود من الموضوع إلى الذات."

** دور الشعاع التكافئي بحسب مهيبل

*الذات لا قيمة لها إلى عندما تلقي شُعائها أمام الموضوع ، لان الذات لا تستبطن ذاتها ، بل عليها أن ترمي بقصدها بمنحى العالم ، والعالم الذي لا ينعكس عن الذات لا قيمة له .

**القصدية مفهوم متعدد الأبعاد و الدلالات ، فهي ليست شعور قصدي لحالة ، وليست موضوع المعبر عن وحدة قصدية ، معينة ، بل انه ينبغي النظر إليها  بما هي عملية تكاملية تبادلية ، إما الانطلاق من  الذات نحو الموضوع إلى الغاية ، أو الانطلاق من الغاية إلى الذات نحو الموضوع

Tout conscience est conscience de quelque chose  .([9])   

***ومن هنا فان الشعور عند هوسرل ، هو الشعور بشيء ما، كونه ينعكس في الذات ، فليس هناك شعور فارغ.

لكن كيف نأنس بهذا الشعور ؟

 لقد أجاب هوسرل عن هذا بحسب المفكر مهيبل عندما قال  : " القصدية هي وصف خالص ، لمجال مغاير هو مجال الواقع المعايش للماهيات التي تتمثل الشيء ".[10] 

و من هنا فالعودة إلى الأصل الشيء، لا تقف عند الظواهر بل تستلزم منا فهم ماهيتها أيضا، وحتى نفهم ماهيتها،

لا بد أن ننظر إلى الظواهر بوصفها شواهد لان العلم و الوعي ليس وحدات معطاة لنا،

و واقعيا، و ليس متقابلان ، ولذا فالوعي يتضح من خلال علاقاتهما.

تعقيبات على فينومينولوجيا هوسرل

 يرى غرا ندان أنه كلّ الفلسفات تعود إلى الأشياء ذاتها فهي منهجية صورا نية، و وصفية.

وفي رأي  أندري دوميرا أن أنطولوجيا هيدغر هي من ساهمت في إخراج الفينومينولوجيي من طابعها الصُوراني، نحو  إدراجها في عالم المعاني والدلالات، و من ثمة محاولة اختراق كينونة الكائن وهي اللغة

ثانيا  - من الانطولوجيا إلى الهرمينوطيقيا

يرى مهيبل أن هيدغر وفق إلى حد بعيد من خلا ل نحت مصطلحات خاصة به ، في فلسفته الأنطولوجية، مما أسبغ عليها طابع التعقيد، و مفاد هذا الأخير هو أن فينومينولوجية هُوسرل ضرورية لفهم إشكالية الوجود في مستوى أفقي فقط ، لكن معرفة الظاهر بحسب هيدغر، يستلزم العودة إلى الكينونة، و حتى تستنطق الكينونة لابد من فهم الكائن ذاته ،وكي نفهم الكائن لابد لنا أن نفهم لغته؟ .

لكن حتى اللغة صارت تؤشكل على ذواتنا،ومن المفروض أن تكون هي مسكن الوجود،  فوقعت هي الأخرى موقع اغتراب ،ومن هنا لجأ هيدغر بحسب المترجم إلى لغة الباطنية الميتافيزيقية فهي لغة رهبانية تخفي أكثر مما تجيب ، و تتساءل أكثر مما تخبر . و عودة هيدغر إلى لغة الشاعر الألماني هود لرين،  كونها تحتل مرتبة أعلى من مرتبة الكائن  [11].

إذ يصفها مهيبل بأنها لغة هلامية غامضة جدا، ولتعدد معانيها تستوجب آلية التأويل، وهذا ما حفز غادامير إلى التوجه إلى فلسفة الهرمينوطيقا لاستنطاق ما لم يصرح به الكائن ؟وللبحث عن ما وراء تلك اللغة؟ لأنه بحسب غادامير الكائن الذي يمكننا فهمه هو اللغة.

 ثالثاً - من الهرمينوطيقا إلى التفكيك:

يمكن اعتبار،  أن وجه التشويق والغرابة، في القراءة الحفرية للدكتور عمر مهيبل، هو تأكيده على أن هناك خيطاً موجهاً رفيعاً يربط  بين الهرمينوطيقا والتفكيكية.  بالرغم مما نعتقده من تنافر  خارجي بين المبحثين. لكن الإشكال لا يختفي. إذا ما علمنا  أنّ غراندان ذاته، لا يخفي ذلك تماماً. فهو على وعي كافٍ. بطبيعة الأشكلة القابعة بينهما.  إلا، أنه وبمهارة الدكتور مهيبل الحاذق، استطاع أن يجد ثغرة في نسق دريدا الكتابي المنغلق من منفذ اللغة مرة أُخرى. فتفكيكية دريدا كما يتصور د. مهيبل :"  ومع، أنّ مُقاربتها اللغوية مُقاربة تنهل من الإرث الألسني التقليدي من حيث أنّ اللغة بناء مُكتمل، مُكتف بذاته، إلاّ أنّ هذا الوصف ينطبق على دريدا الأول إن صحّ هذا التعبير، دريدا الغراماتولوجي De la  Grammatologie،   والصوت والظاهرة La voix et  "

le phénomène، ولكن ليس على دريدا المتأخر الذي أنهكه البحث في مسألة الأصل والهوية دريدا أحادية الأخر اللغوية، ومذكرات لأجل بول دومان، دريدا الذي دافع دفاعا مستميتا عن اللغة الفرنسية، باعتبار اللغة الوحيدة التي يتقنها على حد زعمه.  ولكنه اكتشف في الأخير أنها لم تدافع هي عنه. بل لم تمنحه هي الأخرى حق المواطنة والضيافة داخل الحاضرة  Métropole .  الصافية والعاطرة من دماء الأقدام السود أنفسهم.  ومع حرص دريدا على استشارة مسألة الهوية بكل حُمولتها النوستالجية والتاريخية، فإنه لم يتأخر عن بحث مسألة اللغة في كل أبعادها الدراماتيكية المدمرة.  وذلك عبر سلسلة متنوعة من الأسئلة التي باشرها  والتي أتضح فيما بعد أن يفتقد الإجابة عنها. منها: ما هي لغة الأنا؟ وما هي لغة الآخر؟ هل يمكنني أن أحدد هوية الأنا وفق لغة الآخر بالرغم جهلي لها؟ هل اللغة هي من يصنع المعنى أم أن العكس هو الصحيح؟ هل اللغة المنطوقة حتى ولو لم  تكن لغتي هي مصدر فهمي؟ أم هو الصمت القابع في أعماقي حتى ولو لم تكن له لغته الخاصة به؟   هذه الأسئلة وغيرها  شكلت الشُعلة الأخيرة، في الدراماتيكا  الدريدية.  والتي أراد أن يخفيها دريدا عبر مساره العلمي والفكري المُتسم بالصرامة والانضباطية بحسب د. عمر مهيبل.  لذا، وُجب كما يقول جان غراندان ، أن نولج دريدا  في فضاء المعنى المتعدد، المختلف، أي فضاء الهرمينوطيقا[12].      

 

--------------------------

المراجع

1-  البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، الطبعة الثالثة، 2007.

2-  من النسق إلى الذات، الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، بيروت، 2007.            

3-   كتابات خارج النسق، دار الروافد الثقافية، ابن النديم للنشر والتوزيع، وهران – الجزائر- ط1 2020  

 -----------------------------

[1]-د. مهيبل عمر، من النسق إلى الذات، الدار العربية للعلوم، منشورات الاختلاف، بيروت، 2007. ينظر المقدمة ص 9

[2] -د. مهيبل عمر، البنيوية في الفكر الفلسفي المُعاصر، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر – بن عكنون – ط 2 1993. ينظر مقدمة الكتاب الصفحة 06   

[3]-د. مهيبل عمر، كتابات خارج النسق، دار الروافد الثقافية ناشرون، ابن النديم للنشر والتوزيع، وهران ط1 2020 ص 23.

[4]-جاك دريدا : أحادية الآخر اللغوية، منشورات الدار العربية للعلوم ، منشورات الاختلاف الجزائر .بيروت ط 1  2008  ، ص  12.

[5] - جاك دريدا : أحادية الآخر اللغوية، ص 15.  

[6] -د. مهيبل عمر، كتابات خارج النسق، ص 25.

[7] - جان غراندان: المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2007 ، ص10

[08]  -المرجع نفسه، ص11.

[9] - المرجع السابق  ، ص11.

[10] - نقله المفكر مهيبل ، من كتاب هوسرل ، أفكار حول الفينومينولوجيا. L'idée de la phénoménologie, Paris, PUF, 1992

[11]- المرجع السابق ، ص13.

[12]  -المرجع السابق ، ص  16- 17.  

 

 

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة