الفيلسوف وسؤال المواطنة "بول ريكور نموذجا"

 

 

 

المؤلف : أ.د.بلعاليه دومه ميلود

المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة الشلف

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مخبر البحث  :الأنساق، البنيات النماذج والممارسات، جامعة وهران2

 

 

 

 

 

 

تمهيد:

لقد ظل سؤال الأخلاق عبر تاريخ الفلسفة الطويل يعد بمثابة الامتحان العسير، ولكن المثمر أيضا، لقياس مدى مشروعية الفعل السياسي ، وهذا بدعوى ضرورة انخراط الفيلسوف في مشاكل "المدينة"، ومن ثم في قضايا عصره، انخراطا ينم عن الارتباط المبدئي لدى الفيلسوف بين الحضور "المواطني" الذي يفرضه منطق الانتماء للجماعة وللمدينة، ومن ثم تمثل مشاكلها، وبين الوعي النقدي الذي يفرضه منطق التماسف، ومن ثم إعادة تأويل هذا الوضع ذاته بما يتناسب من جهة أولى مع قناعة الفيلسوف الفكرية، ومن جهة ثانية مع طبيعة اللحظة التاريخية.

 قد يبدو هذا الارتباط المبدئي بعيدا عن ما تثيره الأخلاق من أسئلة فلسفية، لكن بقدر من التمعن والتدقيق في التقابل المفهومي بين حس "الانتماء" وبين منطق "التماسف"، سنكتشف أن في صلب هذه المفارقة ينتعش سؤال الأخلاق الأساسي وهو: كيف يمكن التوفيق بين وجودي كمواطن وبين واجبي كفيلسوف؟ وهو سؤال، كما ترى، مجرد تنويع آخر لمفارقات فلسفة الأخلاق الكبرى: ألا وهي مفارقة القيمة الأخلاقية ذاتها بين الواقع والمثال، بين الطبيعة والواجب، بين الوصف والمعيار، وأخيرا وليس آخرا، بين الوسائل و الغايات. فبهذا المعنى لا يمكن بأي حال من الأحوال الفصل بين ما هو فلسفي إيطيقي وبين ما هو مدني سياسي، طالما أن كل هذه المفارقات تنصهر في سؤال حاسم هو في النهاية : كيف يمكن تحقيق فكرة "العيش الجيد سويا"؟ هل بالاعتراف بالمسار الحر للفعل السياسي ذاته أم بإخضاع السياسي إلى معايير عقلانية خارجية ؟ أو بصيغة أخرى: هل الأمل في مواطنة جديرة بالتطلع الإنساني إلى الحياة الجيدة مرهون بنظام الحاجات الإقتصادي الاجتماعي، أم بنظام الغايات الإيطيقي السياسي؟ ثم ألا يطرح هذا السؤال مشكلة التأسيس الإيطيقي[1] للمواطنة كنمط للوجود السياسي من حيث هو كذلك ؟، ذلك ما يحاول إظهاره وامتحانه من جديد الفيلسوف الفرنسي المعاصر "بول ريكور"(Paul Ricoeur) .

                إن التأمل الحصيف لمسار الفلسفة السياسية الحديث يضعنا في صلب المواجهة مع فكرة المواطنة من حيث هي الفكرة التي تنتظم الوجود السياسي للإنسان الحديث والمعاصر بوصفه "وجودا حرا"، ومن ثم صار التفكير في الفلسفة السياسية بمثابة تأمل ، أو بالأحرى، ضربا من ضروب "التدبر في المواطنة"[2](Une réflexion sur la citoyenneté)، أي في ذلك الشكل الذي ينبغي أن ينتهي إليه مسار الحرية ذاته في التاريخ، على اعتبار أن مسار إنتقال الإنسان من مستوى الفرد إلى مستوى المواطن هو المسار السياسي للحرية[3]. و إذا ما انطلقنا من هذه المسلمة ، فمن الضروري استعادة السؤال الفلسفي التالي: بأي معنى يمكن الحديث عن انتقال "آمن" لهذا المسار في ظل "الارتهانات" التي تسعى باستمرار لاختزال "الفعل السياسي" في "ما ليس هو":

                لكن أليس في ذلك اعتداء على كرامة الفعل السياسي ذاته منظورا إليه كمسار للفعل الحر، ومن ثم للوجود السياسي الأفضل ؟ 

                يبدو أن حرص الفيلسوف على إثارة هذا السؤال هو ما يجعل من سؤال المواطنة سؤالا فلسفيا بامتياز، أي ما يعني الفيلسوف ، لا كمجرد "مواطن عادي" أو "رجل سياسة"، بقدر ما هو في الأساس ـــ حسب قناعة بول ريكور نفسه ـــ "مربي سياسي"[4](Educateur politique) في المقام الأول ، مطالب بتوجيه الممارسة السياسية نحو ما هو أفضل للإنسان بوصفه حرية، وذلك عبر عملية التفكر أو التدبر[5](Reflexion)، لأن "عملية التدبر في المواطنة" هي محاولة فهم كيفية تجذر الفعل السياسي ضمن المسار الفعلي للحرية ، أي المسار الذي يتوافق مع الغائية الداخلية الخاصة بالفعل السياسي من حيث هو كذلك، ومن ثم "إعادة الاعتبار" لكرامة الفعل السياسي بدل العمل على ارتهانه واختزاله.

                في هذا السياق بالذات، أعني سياق "المهمة التربوية السياسية"، يحاول "بول ريكور" بأصالة كبيرة إستئناف التفكير في "المواطنة" من منظور "الإيطيقا الأساسية"[6] ، أو بالأحرى، "القصد الإيطيقي الأول"(L’intention éthique première)  الملازم لبنية الفعل الإنساني عموما ، والذي يجد تعبيره الكامل في الفعل السياسي، وهي محاولة تعكس إنشغال ريكور الرئيس في التأسيس لفلسفة سياسية جديدة ، لا من حيث الماهية، بل من حيث الوظيفة التي ينبغي أن تضطلع بها، خاصة بعد حالة "الإخفاق" التي انتهت إليها الفلسفة السياسية الحديثة حينما تعاطت مع الفعل السياسي بضرب من العقلانية الخارجية، سواء عقلانية الدولة أو الاقتصاد أو المجتمع أو التقنية ، الأمر الذي تسبب في "ضياع المعنى الغائي الحقيقي" لتكون الجماعة البشرية بوصفها جماعة تاريخية بالأساس(Communauté historique) ، وليس مجرد "مجتمع" (Société).  

                إن المواطنة في منظور هذه العقلانية الخارجية تسلب ــ من وجهة نظر ريكور ــ الفعل السياسي حقه في "الاستقلالية الذاتية"(Autonomie)، ومن ثم "تصادر حق المواطنة"(Expropriation de la citoyenneté) من جهة كونه حق الفرد في " المشاركة الطوعية في اتخاذ القرارات المتعلقة بالشأن العام" ومن ثم الحق في "الخير السياسي بوصفه جزؤ من العقل والسعادة" ، وهو ذات الأمر الذي تعنيه الفلسفة حين تتحدث عن"» كونية المواطنين« بوصفها عتبة الإنسانية" [7]، أي ضرورة الانتقال من وضع الرعية (Sujet) إلى وضع المواطن(Citoyen) ، ومن ثم تحقيق الوجود السياسي الأفضل للإنسان.

                لكن من أين يستمد هذا الضرب من الوجود أفضليته إن لم يكن من داخل معقوليته الخاصة، ومن ثم من صميم ما يشكل قصده الأول؟ وما عسى أن يكون هذا القصد إن لم يكن قصدا إيطيقيا بامتياز ؟

 ريكور و أولوية الإيطيقا :

  يتساءل "بول ريكور" منذ محاولة صياغته النهائية لمشروعه الأخلاقي عن إمكانية التمييز بين مصطلح "الأخلاق" بمعنى « Ethique » كما انحدر من الاستعمال اليوناني لكلمة (Ethos) وبين مصطلح " الأخلاق" بمعنى « Morale » كما اشتق من الاستعمال اللاتيني لكلمة (mores) . وبالرغم من أن لا شيئ، حسب ريكور، يجيز هذا التمييز من الناحية الإيتمولوجية على الأقل، إلا أن تحكيم منطق الاستعمال الدلالي للكلمتين يعد مؤشرا على وجود التباس مفهومي يوحي بإمكانية القيام بعملية استثمار دلالي جديد، أو بالأحرى "إعادة تملك" جديدة، يصير معها الفرق بين الكلمتين بيّنا، إن لم نقل حاسما.

تحيل كلمة "إيتيقا" في معجمية "ريكور" الجديدة إلى الأخلاق من منظور غائي، تماما كما كانت تعنيه لدى "أرسطو"، حيث يتم التأكيد على المنحى الطبيعي الذي للأفراد في تحصيل السعادة أو الحياة الجيدة والخيرة، أي "استهداف حياة كاملة وفق أفعال نقدرها على أنها خيرة"[8]، بينما تحيل كلمة "أخلاق" إلى الجانب الإلزامي الموسوم بالمعايير، الذي تنطوي عليه القيم الأخلاقية من حيث هي قواعد كلية قبلية. وليس خافيا أن هذا الاستعمال الأخير ينحدر مباشرة من التراث الكانطي، ذلك أن "أول فرضية ينطلق منها "كانط" هي أنه يوجد "عقل عملي" إلى جانب العقل النظري، وأن للثاني كالأول مستويين: ما قبلي يتعلق بشروط إمكان جميع الأحكام الاختيارية، ومستوى بعدي مكون من الرغبات واللذات والمصالح والأحكام المسبقة والادعاءات اللاعقلانية"[9].

إن الأخلاق إذن، من حيث تصنيفها التراثي، تنقسم ابتداء إلى مستويين: المستوى الأول مستوى إيطيقي، يحمل بصمة ما يمكن أن ندعوه، في إثر ماكس شيلر، "بالتجربة الأخلاقية"، أو ما يدعوه "ريكور" في مواضع أخرى "بالتخلق"[10](Moralité) .

 أما المستوى الثاني فهو مستوى " الأخلاق الواجبية*(Morale déontologique)، من أجل تمفصل التطلع [ إلى الحياة الطيبة] داخل معايير تتسم في آن واحد بادعائها الكلية الكونية (صلاحها لجميع البشر)، واحتوائها قيدا وإكراها". غير أن هذا التصنيف الناتج عن مواجهة تراثين، أحدهما أرسطي (تليولوجي) والآخر كانطي (معياري)، لا يستنفذ كل رغبة "ريكور" في تشييد مشروع فلسفته الأخلاقية، والتي يضعها تحت مسمى "الإيطيقا الصغرى"[11] (La petite éthique) .

إن رغبة "ريكور" في الانفتاح على تجارب العصر، بما فيها من صراعات، وإيمانه بمشروعية تعدد التأويلات، حتى وإن تصادمت، تجعله دائما يبحث عن "طرق جديدة" لاستكشاف الممكن المتجذر في صلب هذه التجارب وهذه التأويلات ذاتها، أي في كنف الصراع نفسه، وهذا دأبه وديدنه في جميع أبحاثه، فلا غرابة إذن أن يعمل على أن يتجاوز إكراهات التصنيف الثنائي السابق ذكره، ليستكشف عبر هذه المواجهة بين التراث الأرسطي والتراث الكانطي، طريقا ثالثا، يكون بمثابة إسهامه الفلسفي الحقيقي في مجال الأخلاق، إنه طريق "الحكمة العملية" (La sagesse pratique) . وبناء عليه نحن أمام نظرية أخلاقية قائمة على ضرب من الاستئناف الإيجابي لسؤال الأخلاق على ضوء إعادة تملك التراث الفلسفي العريق من جهة، وعلى ضوء الطابع الصراعي الذي أفرزته الحداثة في شكليها، التقني والسياسي، على مستوى العلاقات الإنسانية. غير أن الرهان الأساسي الذي تعمل عليه إيطيقا ريكور هو رهان سياسي بالدرجة الأولى، و ذلك لكون السياسة هي المجال الذي تمتحن فيه النظرية الأخلاقية ويمنح للقواعد الأخلاقية مبرراتها أو مشروعية وجودها.

إن "بول ريكور" يدرك  تماما أن بعد "نيتشه" لم يعد بالإمكان الحديث عن "قيمة مطلقة"، أو بعبارة "أوليفيي مونجان"(O.Mongin) "استحالة الرجوع إلى "قيمة القيم"[12]، وتاليا تلاشي إمكانية التأسيس النهائي للقيمة الخلقية، ولكن بالمقابل يؤمن "ريكور" بإمكان قيام "تجربة جديدة" للقيم، تنبع من صميم المفارقات والصراعات التي تسم بقوة وجودنا المعاصر، وذلك لأن "الصراع نفسه يدخل في التكوين الأصلي للإنسان، حيث يعكس فكرة "اللاتناسب"(La disproportion)  الملازمة أنطولوجيا للإنسان: بين الجسم والروح، بين الحساسية والعقل، اللذة والسعادة ...

إن هذه العلاقات اللاتناسبية تولد بالنسبة لعلاقتنا بالآخرين و بأنفسنا ضربا من "الخصوبة" على صعيد التأويل الإيطيقي والسياسي، حيث بقدر ما يولد لدينا هذا الصراع الشعور بالأسى، لعدم قدرتنا على تغييره جذريا، بقدر ما يذكرنا بأهمية اختيار التصرف الملائم والأفضل لهداية حياتنا الخاصة والعامة على حد سواء، وعلى هذا يمكننا الحديث، في إثر "بول ريكور"، عن ضرب من "امتحان الأخلاقي والسياسي بواسطة المأساوي"[13]، إذ يوكل إليهما مهمة تقديم الحلول العملية للصراعات التي لا يمكن للشعور المأساوي إلا أن يتحمل قدرها.

 كما تجدر الملاحظة هنا أنه علينا القبول بهشاشة الحلول التي لا يمكنها أن تتأسس على ضرب من الحجاج العقلي الخالص، بل كل ما في الأمر أنها قادرة على أن تأخذ مكانة "توافقات هشة"، لها ما يبررها داخل المفهوم الأرسطي "للحذر" (Prudentia)، ولعل هذه الملاحظة تأخذ كامل معناها في المجتمعات الديمقراطية الحديثة، حيث هي الوحيدة التي تكون فيها "كل الصراعات مفتوحة"، ولهذا سيكون مهمة الأخلاقي هو الوصول إلى نوع من "التوازن المعقول" بين "خطابات مؤسسة جيدا" وبين "قناعات راسخة جيدا"[14]، وهو الأمر الذي يفرض، لدى ريكور، توسط الإيطيقا بالسياسي*.

إن مرور الإيطيقا بالسياسي في حل المشكلات الأخلاقية، لا يسمح بالانتصار لضرب من الأخلاق الصورية المحضة على غرار أخلاق الواجب الكانطية، كما لا يسمح بدفع  القيم الأخلاقية صوب تجارب فردية أو جماعية معزولة، لأن في كلتا الحالتين يفقد المشروع الأخلاقي مبرر وجوده على المستوى المفهومي والتطبيقي معا، إذ الاحتفاظ بالقواعد الكلية للواجبية، على حساب إهمال التجارب التاريخية والسياقية، يفترض تأسيسا لعلم أخلاق غير معني بأي مضمون حياتي ممكن، وفي هذا انتصار لدوغماتية، نحن مطالبون، في إثر نيتشه وماركس وفرويد، بتحطيمها، كما أن الارتباط بالحالات الفردية والجماعية كمبرر للخيارات الأخلاقية الممكنة، دون الرجوع إلى معايير كلية وإلزامية، سرعان ما يقود إلى ضرب من العدمية أو على الأقل النسباوية الأخلاقية التي لا تقرها "الحكمة العملية"(Sagesse pratique)[15] من حيث هي ، بنظرنا على الأقل، أشبه بما يمكن أن ندعوه "بعتبة البراديغم" في مجال الإيطيقا الجديدة التي يدعو إليها "بول ريكور".

إستقلالية "السياسي" و إمكان المواطنة الحقة:

يتعلق الأمر منذ البداية، حسب ريكور، بضرورة حسم مشكلة العلاقة بين السياسي وبين نمط العقلانية الذي يخصع له تفسيرنا الحديث للفعل الإنساني بوصفه في الغالب فعلا "قابلا للموضعة" ، ومن ثم للتحكم والتوجيه الإرادي، وهو التفسير الذي ينتهي إلى ضرب من الاختزالية للفعل السياسي ضمن دائرة "الشرط الاقتصادي ــ الاجتماعي"، بحيث يصير الفعل السياسي مجرد أثر انعكاسي للتناقضات الاقتصادية  الناتجة عن الصراع الطبقي داخل المجتمع. من هنا حالة القلق التي تملكت ريكور بشأن غياب "الغائية الحقيقية" للفعل السياسي، خاصة  في ظل الممارسات السياسية  المرتكزة على معايير "الدولة الخارجية"(Etat exterieur)  على حد تعبير هيغل، والتي تمثل مجموع الإكراهات الصادرة عن نظام الحاجات الأساسي، الأمر الذي يجعل من ممارسة السلطة ضربا من "العنف المشروع" بلغة ماكس فيبر، وبالتالي يحدث إنشقاقا داخليا داخل فكرة المواطنة ذاتها، حيث تصبح ممارسة السلطة ضربا من العلاقة العمودية بين مواطن سلبي ومواطن إيجابي، وحينها لا يعكس مسار الانتقال من "الفرد إلى المواطن" "المسار السياسي للحرية"، وإنما يغدو تعبيرا عن "صراع دؤوب لاحتكار العنف" تحت مسميات مختلفة: العنف البروليتاري، عقلانية الدولة، الشرعية الثورية... إلخ.

 بهذا المعنى الأخير سيفقد "الفعل السياسي" كرامته كفعل تاريخي "معقول"، أي كفعل ينطوي على معنى بالنسبة للإنسان. إن ربط الفعل السياسي بمعيار خارجي غالبا ما يأتي بالضرورة في سياق تبريري لمبدأ "القوة"(Force) في تأسيس الدولة، على حساب مبدأ "الصورة"(Forme) التي ينبغي أن تحكم الفعل السياسي من حيث هو كذلك، لا من حيث علاقته بخارج ما، ذلك أن الارتباط الحصري بالغائية الخارجية للدولة يفضي، بحسب "ريكور"، إلى ضرب من الخيبة بسبب الإخفاق في عدم القدرة على الطرح المنصف والعادل للفعل السياسي، أي الطرح الذي يضع الأصول والحدود للفعل السياسي من حيث هو كذلك.

                من هنا يسعى "ريكور" لإعطاء الفعل السياسي "كرامته" التي لم يحظ بها بعد بسبب عدم الانتباه للديالكتيك الداخلي الذي  يحكم الفعل السياسي، والمتمثل بامتياز  في علاقة التجاذب بين مكونين أساسيين للفعل السياسي وهما : المكون المعياري الخارجي (يحدد ما ينبغي أن يكون عليه الفعل) و المكون القصدي الداخلي ( ما يستهدفه الفعل) ، ولعل هذا ما يكشف عن مصدر الالتباس في الفلسفة السياسية الحديثة  حين يتم  الاحتكام إلى ضرب من المعيارية لا يتوافق مع "القصدية الأولى" للفعل السياسي، ألا وهو معيار"العقلانية" الخارجية، على غرار العقلانية التقنية الإقتصادية (التخطيط، الفاعلية الحسابية، التوازنات الاقتصادية و التوافقات الاجتماعية...)، ومن ثم إرتهان السياسي بمحددات خارجية، من ثم يدعو ريكور إلى ضرورة البحث عن عقلانية خاصة بالفعل السياسي من حيث هو كذلك، لا من حيث علاقته بخارج ما: تقني إقتصادي أو ميكانيكي إجتماعي...

                إن ضرورة إعادة طرح الفعل السياسي بلغة "الغائية الداخلية" أو بالأحرى، "الغائية المحايثة"(Telos inhérent)  للفعل السياسي، قادت ريكور إلى التساؤل عن نمط أصيل للعقلانية المحايثة للممارسة السياسية  انطلاقا من التنبيه على  "الفارق" بين توصيفين أساسيين للفعل السياسي: التوصيف بناء على مفهوم العقلانية و التوصيف بناء على مفهوم المعقولية (Le Rationel et Le raisonnable)، ولعل مهمة الفلسفة السياسية الجديرة بهذا الإسم، ، بناء على هذا التوصيف الثنائي الريكوري ، هي  الاضطلاع بدور "الوساطة الضرورية" التي تحول دون أن يتحول هذا "الفارق" إلى "إنشقاق" (Schisme)، ومن ثم ستقدم نفسها كما لو كانت بحثا "عن الغائية المميزة حقيقة للفعل السياسي" وفي نفس الوقت تظهر نفسها كما لو كانت بمثابة "باتولوجيا خاصة بالفعل السياسي"[16]  (Pathologie spécifique au politique) ، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إعادة التفكير في المواطنة بوصفها "التجسيد الفعلي لشعور الفرد بالرضا على مستوى الوجود السياسي" ، وبالتالي إضفاء طابع المعقولية على المسار السياسي باعتباره مسارا حرا وآمنا من الفرد إلى المواطن . فالمواطنة لا معنى لها إلا  "كممارسة  تتساوى فيها من حيث القيمة حريتي مع حرية الآخرين "  في ظل  فضاء عمومي مشترك.

                بهذا المعنى الأخير يتأكد فعل المواطنة من حيث هي إنشغال إيطيقي ــ سياسي، و يتأكد من خلاله أيضا "طابع الاستقلال الذاتي للسياسي" (Autonomie du politique)، والذي لا يمكن أن يتحقق، في النهاية، إلا بافتراض القصدية الأولى التي تحكمه من الداخل، والتي تجعله جديرا بالتطلع الإنساني، وذلك ما تستهدفه الإيطيقا بامتياز. وهو، أي ريكور، يتفق في هذا الصدد مع "حنا أرنت" في القول بأن إستقلالية السياسي تكمن في كون  السلطة، قبل اعتبارها نظاما للهيمنة، هي قدرة عل التصرف المشترك ، تفترض  أساسا ذاكرة مشتركة ومشروعا مشتركا ، [ أي تعبير عن ] إرادة ــ  العيش سويا"، وبالتالي  ليس السياسي سوى  مجال امتحان الإيطيقي، إذ في ممارسة السلطة بالمعنى الريكوري  السالف  يرتقي الفعل السياسي إلى  مستوى  الإيطيقي  بوصفه في الأخير النواة الحقيقية لكل تطلع إنساني.

 

لكن ما الذي يستهدفه الفعل السياسي حتى يكون جديرا بالتطلع الإنساني؟ 

لخص ريكور مضمون هذا "الاستهداف " في العبارة التالية:

"التطلع إلى الحياة الجيدة مع الغير ومن أجله في مؤسسات عادلة"[17] .

                نخلص في الأخير إلى القول بأن المواطنة هي بمثابة الممارسة الحقيقية للفعل السياسي بوصفه فعلا يجد مشروعيته من داخل نواته الإيطيقية، ومن ثم تكون "إيطيقا المواطنة" بمثابة الامتحان أو الاختبار العسير والشاق( Epreuve dure)  للاعتراف بالهوية المستقلة للفعل السياسي .

 

------------------------------------------------------------------

[1] في الواقع تكاد تكون فلسفة "ريكور" برمتها "فلسفة للفعل"، ومن ثم هي في جوهرها فلسفة أخلاقية، تكشف عن مدى حضور سؤال الأخلاق في معالجته لكثير من القضايا الفلسفية والسياسية والعلمية، إلا أن الصياغة الصريحة التي عبر فيها عن مضمون فلسفته الأخلاقية فهي تلك الدراسات التي تضمنها كتابه "الذات عينها كآخر" (Soi- meme comme un autre, Le Seuil, 1990، خاصة الراسات السابعة والثامنة والتاسعة. ولقد ترجم هذا الكتاب في إطار مشروع المنظمة العربية للترجمة. أنظر بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2005، مركز الدراسات العربية، بيروت .

[2] من الملفت للنظر أن ريكور يعرف الفلسفة السياسية بأنها "ضرب من التدبر في المواطنة"": 

 (je définirai volentiers pour ma part la philosophie politique comme une réflexion sur la citoyenneté)

P. Ricour, Ethique et politique, in : Du texte à l’action, Seuil, 1986, p.439 

[3] يتساءل ريكور : كيف يمكن أن يكون هذا المسار السياسي للحرية معقولا؟ (المصدر نفسه، ص  نفسها)، وهو تساؤل يتعلق بجوهر  المواطنة.

 

[4] Cf. P. Paul Ricœur, «Tâches de l’éducateur politique», dans : Lectures 1, Seuil, 1991. Pp. 241 – 257   

[5] تحتل عملية التدبر(Reflexion) عند ريكور موقعا حاسما ضمن كامل فلسفته، وهي عنده  تأخذ معنى  مقابل  لعملية "الموضعة" (Objectivation)

[6] يستخدم "ريكور" مفهوم الإيتيقا الأساسية" بغرض تمييوها عن  الأخلاقيات التطبيقية.  راجع في هذا الصدد:

 P. Ricoeur, « De la morale à l’éthique et aux éthiques » in : Un siecle de philosophie (1900-2000),   Gallimard/Centre Pompidou, Paris, 2000, p.107-114

[7] P. Ricoeur, « Le paradoxe politique » dans : Histoire et vérité, Seuil, 1967, p.298                            

[8] Paul Ricoeur, « Ethique et morale » in : Lectures I, Seuil, 1991., p.259                                                           

[9] بول ريكور:"الكوني والتاريخي"، ترجمة حسن بن حسن، مجلة مدارات فلسفية، العدد6، 2001، الرباط، المملكة المغربية، ص 152

[10] Paul Ricoeur, « L’universel et l’historique » in : Magazine littéraire, no 390, septembre 2000, p.37   

 *  الواجبية (Déontologie) أو الأخلاق من حيث انطوائها على على فكرة الواجب أو الإلزام .

[11] Fronçois Dosse, Paul Ricoeur, Les sens d’une vie (1913-2005), La Découverte, Paris, 2008, p.628     

[12] أوليفيي مونجان: "التزام  وقيمة"، ترجمة عبد السلام محمد طويل، أوراق فلسفية، العدد 8، ديسمبر 2003، القاهرة، ص 86

[13] Paul Ricoeur, Soi-meme comme un autre, Seuil, 1990, p.283                                                                

[14] Ibid, p.335                                                                                                                                               

* يرى ريكور انه إذا كانت علاقات السياسي بالإيتيقا هي ذاتها علاقات أصيلة، والأكثر من ذلك حادة، فإن الأمر يتم في حدود كون السياسي يثير مشاكل وصعوبات خاصة لا يمكن اختزالها في الظواهر الاقتصادية" وفي هذه الملاحظة إحالة على أن الصعوبات التي يثيرها السياسي، والتي لا يمكن إرجاعها إلى العامل المادي فقط، هي التي تثير بدورها الفطنة أو الحكمة العملية.  للاطلاع أكثر على علاقة السياسة بالأخلاق في: P.Ricoeur, Ethique et politique… , op.cit, pp.433-448        

[15] "الحكمة العملية" هي البعد الثالث الذي يضيفه "بول ريكور" للفلسفة الأخلاقية، حيث يقول: وقد أسميت هذا البعد بالحكمة العملية اعتبارا لما أسماه هيغل بـ: Sittlichkeit ، في مبادئ فلسفة الحق، وللنظرية الأرسطية لـ: phronesis المترجم إلى اللاتينية بـ: prudentia والمعروضة في الفصل السادس من كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس". أنظر: Paul Ricoeur, « L’universel et l’historique » , op.cit., p.39                                                                     

[16] P. Ricoeur, Ethique et politique, in : Du texte à l’action, op.cit., p.436   

[17] Paul Ricoeur, Soi-meme comme un autre, Seuil, 1990, p.202

 

 

 

 

 

 

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة