
مشروع اللغة الكونية و أدواتها عند "ليبنتز"
المؤلف : أ.د.بلبولة مصطفى
المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة الشلف
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث : الأبعاد القيمية للتحولات الفكرية والسياسية في الجزائر، جامعة وهران2
يرتكز مشروع اللغة الكونية عند "ليبنتز" على مجموعة من المقومات، بعضها يرتبط مباشرة بنسقه الفلسفي، و هو الأمر الذي يجعله متميزا عن بقية المشاريع، وبعضها الآخر يندرج ضمن الإشكاليات العامة التي أفرزتها الأبحاث الفلسفية في مجال اللغة منذ "أفلاطون" حتى القرن السابع عشر. ويتمحور اهتمام "ليبنتز" بالدرس اللغوي أساسا حول التوفيق بين الرغبة في عقلنة التواصل والوصول باللغات الطبيعية إلى القدرة على التكيف مع مختلف التحولات التقنية الناتجة عن الثورة العلمية التي عرفها القرن السابع عشر، و البحث في أسباب تنوع اللغات وآليات التغير التي تطرأ عليها عبر التاريخ، و أخيرا حول مشروع "لغة ـ حساب" (langue-calcul) للفكر. و تشكل هذه المحاور الثلاثة و ما يتفرع عنها، ما يمكن تسميته بـ "ثوابت" الدرس اللغوي عند "ليبنتز". و نستطيع حصر هذه المقومات في النقاط التالية.
1 ـ التأثيل (l'étymologie) و الدلالة الطبيعية:
يعتبر التأثيل مسألة أساسية عند لـ"ليبنتز"، من حيث طبيعته وحدوده ودلالته العامة كطريقة وأداة في البحث اللغوي، و قد شجعه حسه التاريخي على تصور التأثيل كمادة مساعدة لمعرفة اللغات التي من خلالها يمكن معرفة تاريخ الشعوب، وأما نزعته التوفيقية فقد شجعته على التركيب بين"الكراتيليزم" (le cratylisme) والتواضعية، وقد كان "ليبنتز" شديد الاهتمام بالتعارض الموجود بين هذين التيارين في موضوع علاقة اللغة بالواقع الذي تعبر عنه.
ويعتبر التيار الأول امتدادا للتقليد الأفلاطوني الذي يؤكد على فكرة التوافق الطبيعي بين العلامة اللغوية وما تدل عليه، بينما يعتبر التيار الثاني امتدادا للتقليد الأرسطي الذي يرى في العلامة مجرد وحدة اعتباطية مصدرها المواضعة، وما زال هذا التعارض يَسِمُ النقاشات اللغوية الحديثة. ولكي نكون على بيّنة من الأمر، نعرض أهم الأفكار والمحطات التي تضمنتها محاورة "كراتيلوس" لأفلاطون.
يمكن اعتبار محاورة "كراتيلوس" عملا محوريا ومؤسِسا في التفكير اللغوي عند اليونان. و يدور الجدل في هذه المحاورة بين "سقراط" و"كراتيلوس" و"هرموجين"، حيث يتم البحث في العلاقة بين الكلمة و الشيء، فتذهب النظرية التواضعية التي يمثلها "هرموجين" إلى أن مصدر الدلالة في الكلمات هو التواضع والاستعمال، وذلك أنه من الواضح إمكانية فهم دلالة الكلمة عن طريق العادة والتواضع، حتى وإن تضمنت الكلمة عناصرَ و أصواتا لا تمت بصلة إلى الشيء المسمى، ومثال ذلك تسمية الأعداد التي لا تقوم البتة على المشابهة، لا لشيء إلا لأن الأعداد ليست من العالم الحسي المرئي، و من ثم فليس هناك تفسير مقبول لهذه التسمية غير التواضع.
و في مقابل هذا، تذهب النظرية المضادة التي يمثلها "كراتيلوس" إلى أن ثمة توافقا طبيعيا بين الكلمات والأشياء، أي أن التسمية تحددها طبيعة الأشياء ذاتها. و يتموقع "سقراط" في مرحلة أولى في صف "كراتيلوس" ضد "هرموجين"، ذاهبا إلى أن تحديد أسماء المسميات لا يقوم به أي شخص، وأن هناك علاقة طبيعية بين الأسماء والأشياء. فَلِكَيْ يكون الاسم مضبوطا، يجب أن يعبر عن طبيعة المسمى، من حيث هو محاكاة له عن طريق الصوت. فليس بمقدور أي شخص أن يضع أسماء الأشياء وفق إرادته، و إنما يضعها المشرع وفق ما تقتضيه الطبيعة الخاصة بالأشياء، فهي إذن مشتقة منها.
ويذهب "أفلاطون" على لسان "سقراط" إلى أن لكل صوت أو حرف دلالة خاصة به، وبتطبيق هذه الخصائص، وضع المشرع علامة أو اسما لكل كائن، وانطلاقا من هذه الأسماء الابتدائية، تم تشكيل بقية الأسماء.
إلا أن "سقراط" يتحفظ على المطابقة المطلقة بين الاسم و المسمى، و يذهب إلى أن الاسم قد لا يكون محاكاة دقيقة للشيء، لأن وضع الأسماء فن له فنّانوه، والفنانون متفاوتون في مهاراتهم، و بالتالي فإن هناك تفاوتا في دقة الأسماء ومطابقتها للأشياء(1)حيث يرفض "كراتيلوس" أن تكون هناك أسماء غير صحيحة، فإما أن يكون الاسم صحيحا أو ليس اسما أصلا، فيبقى مجرد أصوات.
و يرد "سقراط" بأن الاسم شيء و المسمى شيء آخر، ما دام الأول محاكاة للثاني، أي صورة له، و بالتالي يمكن أن يٌنسب للشيء صورة غير صورته، ومن هنا يكون الخطأ في التسمية. وبمعنى آخر، يمكن أن تتفاوت الأسماء في درجة مشابهتها للمسميات، ذلك لأن الصورة ليست نسخة مطابقة تماما للشيء، وإلا تعذر التمييز بينهما، فيكفي إذن أن يتضمن الاسمُ الطابعَ المميز للمسمى.
والحاصل أن معنى الاسم يبقى مفهوما لدى من يستعمله، حتى لو تضمن بعض العناصر التي ليس بينها وبين الشيء المسمى أي تشابه، الأمر الذي يعني أن الاستعمال، الذي هو نوع من المواضعة، يساهم في تحديد العلاقة بين الاسم و المسمى، ومن ثم وجب التسليم بأن ثمة نصيبا من المواضعة في الأسماء (2). ثم يذهب "كراتيلوس" إلى أن الغاية من وضع الأسماء هي أن تمدنا بمعرفة المسميات، حيث يقول "أفلاطون" على لسانه: « أعتقد من جهتي يا "سقراط"، أن الأسماء تُعلِّم، و نستطيع أن نؤكد بكل بساطة، أننا متى عرفنا الأسماء، عرفنا الأشياء كذلك »(3).
يظهر من المحاورة إذن، أن التيار الكراتيلي يذهب إلى أن هناك علاقة طبيعية بين الدال والمدلول، ولكن هذه العلاقة تفسد وتضمحل تدريجيا في خضم التغيرات التي تطرأ على اللغة، وهذه العلاقة الابتدائية هي ما يسميه "ليبنتز" « الدلالة الطبيعية »(4).
إن العلاقة بين الدال و المدلول ـ في نظر "ليبنتز" ـ ليست اعتباطية و لا ضرورية، و إنما هي عارضة ومعللة (contingente et motivée)، « فالعلاقة بين الكلمة و الشيء محددة وثابتة، و بالتالي فهي ليست اعتباطية ( بالمعنى المطلق)، بل على العكس من ذلك، هناك أسباب أكيدة تعلل نسبة الكلمات إلى الأشياء »(5).
إن المبدأ الذي يعوّل عليه "ليبنتز" في تأكيده على أن العلاقة بين الدال والمدلول ليست اعتباطية ، هو مبدأ السبب الكافي الذي يقضي بأنه ليس هناك ما يحدث صدفة. يقول "ليبنتز" في المونادولوجيا، «...ومبدأ السبب الكافي الذي بمقتضاه نعتبر أنه لا يمكن أن يكون أي أمر صادقا أو موجودا، أو أن يكون أي تعبير صحيحا، دون أن يوجد سبب كاف لأن يكون الأمر على هذا الشكل بالضبط لا على خلافه، رغم أن هذه الأسباب غالبا ما تكون مجهولة لدينا»(6). إن إيمان "ليبنتز" الراسخ بمبدأ السبب الكافي يمنعه من أن يعتقد بأن العلامة اللسانية اعتباطية بشكل مطلق، فهو مبدأ يستلزم أن تكون العلامة معللة، إذ لا شيء يرجع إلى الصدفة في هذا العالم، و في أحسن الأحوال، يمكن القول أن الصدفة هي جهل للأسباب.
ويعتقد "ليبنتز" أن التغيرات اللغوية ترجع في الأساس إلى أسباب فيزيائية، وذلك لأن مصدر الأصوات هو مجموعة من الأعضاء، فكل صوت عندما نقترب من حالته الأصلية يعبر عن حالة انفعال أو عن حركة، فـ« هناك شيء ما طبيعي في أصل الكلمات، يعبر عن العلاقة بين الأشياء والأصوات وبين حركات الأعضاء التي يصدر منها الصوت »(7).
انطلاقا من هذه المعطيات، فإن وظيفة الطريقة التأثيلية هي الكشف عن تلك الأسباب التي أدت إلى ارتباط الكلمة بالشيء، ويترتب عن تطبيق مبدأ السبب الكافي معرفة أصل التسمية حتى بالنسبة لاسم العَلَم.
وإذا كنا نعرف أن اسم العلم يطلق على الفرد، و أن الاسم المشترك (le nom commun) يطلق على أفراد كثيرين، فإن "ليبنتز" يذهب إلى أن اسم العلم في الأصل كان تسمية لما هو مشترك، و تعليل ذلك أن مبدأ "الاقتصاد" في اللغة يقضي باستحالة وجود عدد من الأسماء مساوٍ لعدد الأفراد و الأشياء، و هو مبدأ ينطبق على كل الأسماء. يقول "ليبنتز": «كانت أسماء الأعلام في العادة تسميات للنداء (noms appellatifs)، أي كانت أسماء عامة في أصلها، مثل "بروتوس" (Brutus) و "سيزار" [ أو قيصر] (César) و"أوغست" (Auguste) [...] لأننا نعرف أن أول "بروتوس" استمد اسمه مما كان يبدو عليه من الحماقة، و أن "سيزار" كان اسما لطفل كانت ولادته بشق بطن أمه، وأن "أوغست" كان اسما دالا على التوقير »(8). ولكن هل طبق "ليبنتز" مبدأ السبب الكافي على دراسة التغيرات اللغوية بصورة منهجية و مضبوطة؟
يعتقد "فردريك ناف" عكس ذلك، إذ لو أن "ليبنتز" طبق هذا المبدأ بشكل منهجي، لأكتشف مجموعة من القوانين التي تتحكم في تلك التغيرات قبل أن تكتشفها أدوات النحو المقارن، في حين أنه لم يستشعرها بتاتا و لم يشر إليها فهو من جهة يعتمد كثيرا على التماثل (l'analogie) في منهجه، و هذا ليس مسلكا آمنا، إذ أن مجرد التشابه بين الأشياء ليس سندا متينا للكشف عن العلاقة بينها و لا يثبت أي شيء كما أنه من جهة أخرى كثيرا ما يفسح المجال للصدفة في التأثيل، رغم أنه حريص على التمسك بأن لا شيءَ يرجع إلى الصدفة.
ورغم أنه يحذر كذلك من التأثيلات المضللة حيث يرى أن التغيرات التي تطرأ على اللغة معللة، تحدث بصورة لا يمكن توقعها(9).
ويرتبط مبدأ السبب الكافي الذي يقوم عليه التأثيل بمبدأ آخر، هو مبدأ "الاستمرارية أو الاتصال"، ( principe de continuité) فإذا كان الأول يقضي بعدم اعتباطية العلامة، فإن الثاني يقضي بأن هناك ارتباطا واتصالا بين مختلف اللغات، وإذا كان استعمال هذا المبدأ في التأثيل شائعا في عصر "ليبنتز"، فإن ما يميز الفكرة عنده، هو أنه جعل هذا المبدأ نتيجة لمبدأ "السبب الكافي". ووفق هذين المبدأين، تصبح وظيفة التأثيل من جهةهي إيجاد تعليلات أو تبريرات للأسماء بالكشف عن أصل الارتباط بين الأصوات و المعاني داخل الكلمات، و من جهة أخرى، إثبات القرابة بين الشعوب بتحديد الارتباط بين اللغات.
إن فكرة الدلالة الطبيعية تستمد أصولها من التصور الأفلاطوني، ذلك أن "أفلاطون" في محاورة "كراتيلوس" يعتمد في تأثيلاته على التفسير نفسه لتعليل الأسماء، و رغم أن "ليبنتز" لم يفرد لهذه الفكرة نصا مستقلا، فإنه من الممكن إعادة تركيبها انطلاقا من مجموعة من الملاحظات المتفرقة.
حيث يذهب إلى أن اللغة في تكونها تمر بعدة مراحل، أولها مرحلة الكلمات المحاكية (le stade onomatopéique)، ونظرا للتشابه الكبير بين الكلمات المحاكية (les onomatopées) وما تدل عليه، فإنها تشكل العناصر الأكثر قربا من "الكلمات ـ الجذور" (les mots racines ) في اللغة، ولا تبتعد أصوات التعجب كثيرا عن الكلمات المحاكية، والتي تدخل تحت جنس "الأدوات"، ولكنها تتميز عن بقية الأدوات من حيث أنها تعبرمباشرة عن الانفعالات و الإدراكات ولهذا فالتشابه بينها وبين مدلولاتها كبير جدا(10).
ورغم أن "ليبنتز" يعتبر في بعض نصوصه أدوات التعجب بقايا للأصول الحيوانية في الإنسان، فإنه يعتبرها في النصوص المتعلقة بالتأثيل، عناصر أولية في اللغة، حيث أننا إذا تناولناها بشيء من التحليل العميق، وجدنا أنها تعبر عن حالات انفعالية وأحكام في الوقت نفسه، و من ثم فإنها تنطوي على محتوى معرفي(11)
2 ـ التعريف و البعد الأكسيومي:
إن تأسيس أبجدية كونية يقتضي، كشرط أول، وضع تعريفات، على ألاّ تكون هذه التعريفات لفظية أو اسمية، بل بناءات، بحيث يمكن التحقق منطقيا من إمكانية وجود المعرف، و هو الأمر الذي يمنع من أن يكون التعريف اعتباطيا، و يمنع كذلك إعطاء أسماء لا تعليل لها، و ذلك بالتطبيق البسيط لمبدأ السبب الكافي، حيث يكون كل شيء معللا، كما أن تطبيق مبدأ الهوية يمنع من إعطاء تعريفات فيها تناقض.
إن أفكارنا مائجة و ذاتية، و بالتالي فمهما بدت بديهية، فإنها ليست معيارا للعلم الذي هو موضوعي بطبيعته. فكل شيء حسب "ليبنتز" يجب أن يعرّف ويُبرهَن عليه، وهو الذي كان يمهد الطريق للأكسيوماتيك كما يقول "إيفون بلافال"(12).
في حين أن "ديكارت"، لم يكن يرى في التعريف سوى استبدال لفظ بلفظ آخر، فهو لا يعرّفنا بطبيعة المعرف. فتعريف "الإنسان" بأنه "حيوان عاقل" مثلا، لا يضيف إلى معرفتنا بالإنسان شيئا جديدا ما دام الحد "حيوان" و الحد "عاقل" لا يَقِلاّن غموضا عن الحد "إنسان". فوضوح الفكرة لا يتحدد إلا بيقين الحدس الذي يصبح التعريف أمامه غير مجدٍ أما "ليبنتز"، فإن التعريف عنده متى كان جيدا ودقيقا يؤدي إلى "توليد" المعرف؛ إنه التعريف الإنشائي الذي يسمح بمعرفة إمكانية وجود المعرف، و يمكن اعتباره في هذه الحالة تعريفا سببيا (définitioncausale) ما دام ينشئ معرَّفه.
إن التعريف إذن، هو الذي يحدد وضوح الفكرة وليس الحدس، سواء كان اسميا قائما على تقدير عدد الخصائص الكافية لتحديد المُعرّف، أو كان تعريفا حقيقيا ينشئ ماهية المعرّف، و بالتالي، فهو مفيد لسببين؛ من جهة لأنه يُمكِّن من التخلص من تغيرات البداهة و نسبيتها و ذاتيتها، ومن جهة أخرى لأنه خصب(13).
وهذا يعني أنه يجب تعويض تلك الأفكار بالعبارات الدالة عليها، أي تعريفها، لأن وظيفة التعريف هي عَرْضُ مكوِّنات المعرّف، ومن شأن "الرموز الكونية" أن تمنح هذه التعريفات صيغة جبرية تضمن لأفكارنا الدقة و الموضوعية(14)، و إذا ما نحن عوضنا الفكرة بالعبارة الدالة عليها، أعني إذا ما وضعنا لها تعريفا، فمن شأن هذا التعريف أن يعبر من خلال نظام الحدود المكوِّنة له عن نظام الخصائص المكونة للمعرَّف. فبين خصائص التعريف الإنشائي و خصائص المعرف، تماثل و توازٍ، أي أن نظام العبارة يتوافق مع نظام الفكرة، ومعنى ذلك أن أفضل تعريف هو ذلك التعريف الذي ينشئ المعرف و يسمح ببنائه. فعوضا عن أن يعبر عن الظاهر، فإنه يعبر عن الماهية الداخلية للمعرف، ويكون بذلك معيارا لإمكانية وجوده منطقيا.
و هكذا يبدو أن "ليبنتز" يتقاطع مع "هوبز" الذي يرى أن التفكير والحساب شيء واحد ، فهو يؤكد معه أن نظام الاستدلال لا ينفصل أبدا عن ترتيب الرموز والأسماء، ولكنه لايتبنى اسمية "هوبز" الذي يختزل الحقيقة كلها في الأسماء، ويعتبر التعريف اعتباطيا، في حين أن "ليبنتز" يميز بين الاسم والتصور، ويؤكد على أن الحقيقة لا تتحدد بالاسم(15).
إن التعريف الحقيقي ليس ذلك التعريف الاسمي ( définition nominale) الذي نذكر فيه خصائص المعرف، دون أن يبين لنا ما إذا كانت تلك الخصائص منسجمة ومتلائمة (compatibles) فيما بينها، وإنما هو تعريف يكشف لنا عن تساوق الخصائص و إمكانية وجود المعرف منطقيا.
ويمكن ربط مفهوم "ليبنتز" للتعريف بفكرة "الأبجدية الكونية" أو "الترميز الكوني"، تلك الفكرة التي شغلته وقتا طويلا، والتي بدأ الكتابة فيها في سن العشرين. و كان يعتقد أن الطريقة الرمزية التي تجسدها "الرموز الكونية" تسمح بتحقيق النتائج نفسها في جميع المجالات بالصورة نفسها التي تحققت في الرياضيات، و قد بلغ إعجابه بها حد الاعتقاد بإمكانية تطبيقها في أي علم، حتى في الميتافيزيقا و الأخلاق. فهو يرى أنه يكفي بأن نضع بالنسبة لكل علم، مجموعة من المقدمات بصفة قبلية، وتستنبط منها قضايا جديدة بتطبيق بعض قواعد الاستدلال البسيطة. وبهذا، فإن فكرة "الترميز الكوني" تقترب كثيرا من القياس الذي يعتبره "ليبنتز" من أخصب الإبداعات الإنسانية، باعتباره ضربا من الرياضيات الكونية.
والشيء الذي كان يطمح إليه "ليبنتز" شبيه إلى حد بعيد بالمنطق الرمزي الذي هو فرع من الرياضيات و الذي كان لـ"جورج بول " دور ريادي في تطويره(16).
إن العلاقة التبديلية، أي قابلية الانعكاس، بين التعريف والمعرّف هي المقياس الأساسي لكل تعريف صحيح، وهي الشرط الذي يجب الالتزام به في الخطاب حتى لا يتحول إلى عبث بالكلمات. وبناءً على هذا، فإن مبدأ الهوية هو الأساس الذي تقوم عليه العلاقة بين التعريف و مُعرّفه.
زيادة على ضرورة أن يكون التعريف إنشائيا و قابلا للانعكاس، يجب أن يكون واضحا. والوضوح في التعريف يقتضي استعمال الحدود المألوفة واستبعاد الألفاظالتقنيةقدر المستطاع. ولكن رغم أن الألفاظ المألوفة تضمن لنا قدرا كبيرا من الوضوح، فإن الاكتفاء بها يُقحِم في الخطاب إطنابا و إسهابا غير مُجدِيَين. و يعتقد "ليبنتز" أن الفيلسوف لا يختلف عن الآخرين في الأسئلة التي يطرحونها، بقدر ما يختلف عنهم في طريقة طرحها، ذلك لأن الفيلسوف يولي أهمية بالغة لأمور يهملها الآخرون، وهو الأمر الذي يجعل الفيلسوف يلح على تحديد الألفاظ و الحدود و شرحها(17).
إن الناس يحاورون أنفسهم، أو يتحاورون بعضهم مع بعض بصورة ضمنية أحيانا، وأحيانا أخرى عن طريق المشافهة أو الكتابة أو الإيماءات أو أية علامة أخرى، ولكن لكي يتم التواصل، يجب التصريح بدلالة العلامات باستعمال علامات أخرى. وإذا صغنا تصريحا بصدد علامة ما، فإننا ملزمون باستعماله بالمعنىنفسه الذي حددناه. و لما يتم هذا التصريح عن طريق الكلمات، فإنه يسمى تعريفا(18).
و إذا كان تعريف الحد لا يتم إلا باستعمال حدود أخرى، فإنه ينبغي تعريف هذه الحدود كذلك، إلا أن ذلك لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية له، بل يجب الانتهاء إلى حدود غير قابلة للتعريف، إما بالتسليم بها اضطرارا و إما لبداهتها حيث يقول "ليبنتز" في هذا المعنى إنه ينبغي « البحث عن التعريفات، و تعريفات الأجزاء المكونة لها، إلى غاية أن نصل إلى الحدود اللامُعرَّفة»(19)
3 ـ السيميوطيقا
إذا لم يكن بإمكاننا أن نتحدث عن "السيميوطيقا" أو "السيميولوجيا" عند "ليبنتز" بمعناها العلمي المعاصر، فإننا مع ذلك نستطيع أن نعثر على بعض الإشارات المتعلقة بهذا الموضوع في التفكير اللغوي عنده، وذلك لأنه أَوْلى لدراسة العلامة مكانة مميزة. فقد عبر عن الطابع السيميوطيقي للفكر والاستدلال قبل "بيرس" (Ch. S. PEIRCE) عندما قال: « لم أعرف ولم أجد و لم أثبت أية حقيقة دون أن أستعمل في ذهني كلمات أو علامات أخرى، بل أكثر من ذلك، إننا بدون علامات لن نفكر بتميز ولن نستدل أبدا »(20). فهو من جهة يؤكد على استحالة التفكير والاستدلال خارج إطار العلامات، ومن جهة أخرى، كان متفطنا إلى حد بعيد لتنوع الصور التي يمكن أن تأخذها الرمزية.
ويكشف "فردريك ناف" عن ثلاثة أصناف من العلامة عند "ليبنتز"، تختلف من حيث طبيعتها فقد تكون العلامة "طبيعية" و لكنها "غير إيقونية"، وهذا هو شأن العلامة في اللغة الطبيعية، رغم أننا نستطيع العثور على شيء من "الإيقونية" (l'iconicité) في الكلمات المحاكية، وقد تكون "اصطناعية إقونية" مثل الصوروالأشكال، وقد تكون "اصطناعية غير إيقونية" مثل الرموز الموسيقية والرياضية، وتندرج الكتابة الصينية والكتابة الهيروغليفية ضمن الصنف الثاني، والتي يعتبرها "ليبنتز" أنساقا اصطناعية(21).
وفي السياق نفسه، يشير "فردريك ناف" إلى أن بنية العلامة يمكن أن تكون ثنائية (dyadique)، مثل الترابط بين شيئين، حيث تكون العلامة استدعاء حسيا لحقيقة غير حسية، وقد تكون ثلاثية (triadique) مثلما هو الأمر في الارتباط بين الفكرة و الشيء من جهة، و بين الكلمة و الفكرة من جهة أخرى، و قد تكون رباعية (tétradique) تتدخل فيها العناصر الأربعة: العلامة ـ التصور ـ الشيء ـ المؤَوِّل (بكسر الواو ) (l'interprète) حيث يذهب "فردريك ناف" إلى أن هذه البُنى الثلاث كانت معروفة لدى "ليبنتز". ويمكن الوقوف على البنية الثنائية عنده، عندما يتحدث عن تعبير العلامة عما تدل عليه تعبيرا مباشرا، و هو الأمر الذي كان يطمح إليه في الرموز الكونية. أما البنية الرباعية فنجدها في تأويل النصوص الدينية وفي القضاء، وفي هذه الحالة يدخل المؤوِّل أو الفقيه كعنصر في البنية. ومن ضمن البُنى الأربع المذكورة، فإن البنية الثلاثية هي الأكثر شيوعا(22).
إن القضية المحورية في سيميوطيقا "ليبنتز" هي أن التفكير لا يمكن أن يتم إلا عن طريق العلامات، وهذا يعني أنه يعطي أولوية للوظيفة المعرفية للعلامة على حساب الوظيفة التواصلية، فهو يقول: « رغم أن الإنسان يستدل على أشياء مجردة تفوق الخيال، فإنه لا يكف عن أن تكون في خياله علامات تمثل تلك الأشياء، مثل الحروف والرموز »(23).
و في الوقت الذي يرفض فيه "ليبنتز" آلية الجسم، وتفسير مختلف وظائفه بطريقة ميكانيكية كما ذهب إلى ذلك "ديكارت"، فإنه لا يتحرج من القول بهذه الآلية على مستوى التفكير. فإذا كنا لا نستطيع المسك بالطبيعة الكلية للأشياء دفعة واحدة، فإننا نعوض الأشياء بالعلامات. و إذا لم يكن من الممكن معرفة المفاهيم الأولية الواضحة إلا بالحدس، فإن معرفة المفاهيم المركبة لا تتم ـ في الغالب ـ إلا عن طريق الرموز. و معنى هذا أننا لا نستطيع أن نفكر إلا باستعمال الرموز، و بالتالي من خلال اللغة. و لكننا عندما نستعمل الكلمات، فإننا لا نفكر في معانيها الجزئية لنبني منها أفكارا مركبة فيما بعد، وإنما نعتقد أننا نعرف دلالة الكلمات، و بالتالي نستعملها بطريقة آلية دون التحقق من محتواها. و هذا هو على وجه التحديد الأمر الذي كان يطمح إليه "ليبنتز" من خلال بحثه عن تأسيس لغة مثالية قوامها الرموز الكونية(24).
--------------
المراجع
1 - PLATON, Protagoras – Euthydème – Gorgias – Ménexème – MénonCratyle (dialogues), trad. Emile CHAMBRY, éd. Garnier- Flammarion, Paris,1967, p. 380.
2 - ibid. p.381.
3 –ibid, p. 465.
4 - NEF Frédéric, Leibniz et le langage ,éd .P.U.F. Paris, 2000, p. 15.
5 - ibidem.
6 - LEIBNIZ Gottfried Wilhelm, Monadologie, édition critique établie par Emile BOUTROUX, éd. Librairie générale française, Paris, 1991, p.141.
7 - LEIBNIZ Gottfried Wilhelm, Nouveaux essais sur l'entendement humain, éd. Garnier Flammarion. Paris, 1966, p. 243.
8 - ibid. pp. 247-248.
9 - NEF Frédéric, op. cit\.p. 17.
10 –ibid, pp. 29-30.
11 - ibid. p.78.
12 –BELAVAL Yvon, LEIBNIZ critique de Descartes,éd.Gallimard, 1960,p. 160.
13– ibid, p.172.
14 –ibid, pp. 193 -194.
15 – ibid, pp. 188-189.
16 - RUSSELL Bertrand, la philosophie de Leibniz, exposé critique trad. J. et R. Ray, Editions des archives contemporaines, Paris, p. 192.
17 - NEF Frédéric, op. cit. pp. 49-50.
18 – ibid. p. 96.
19- نقلا عن :(Marine PICON, L'expérience de la pensée: définitions, idées et caractères en 1675, in
Leibniz et les puissances du langage, op. cit. p. 183.)éd.D.BERLIOZ et F. NEF,
20 – LEIBNIZ G. W., Discours de métaphysique et autres textes, trad. Christiane Frémont, éd. Flammarion, Paris, 2001, p. 106.
21 - NEF Frédéric, op. cit. p. 99.
22 – ibidem.
23ـ نقلا عن:NEF Frédéric, op.cit. p.100
24– ibid. p. 102.
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 07 ديسمبر 2020