
التنمية والتربية المستقبلية
المؤلف : د.داود خليفة
المؤسسة:قسم الفلسفة، جامعة الشلف
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث :فلسفة، علوم وتنمية بالجزائر، جامعة وهران2
مقدمة:
تكتسب التربية أهميتها وضرورتها نظير ما تلعبه من دور بارز في حياة الأفراد والمجتمعات، فالإنسان من حيث هو فاعل في محيطه الاجتماعي لا يستطيع أن يلعب دوره ويحقق فعاليته مالم يتعلم العديد من القيم والمهارات والقدرات.
ومما لا شك فيه، أنه لا يمكن الحديث عن أي تنمية دون الحديث عن التربية التي تنوط بها المدرسة، على اعتبار أن المدرسة هي أساس كل تنمية داخل المجتمع، من هنا جاء اهتمام الدول بالمنظومة التربوية ومحاولة تطويرها بما يواكب تحولات العصر، بهدف أن تساهم العملية التربوية في العمل التنموي.
وباعتبار السؤال الفلسفي سؤال مستقبلي؛ فإنه ينبغي أن يتجه السؤال إلى مستقبل المدرسة وإمكانية اسهامها في تحقيق التنمية. لذلك آثرنا جملة من الإشكاليات جاءت على النحو الآتي: كيف يمكن بناء مدرسة من شأنها أن تساهم في تحقيق التنمية؟ وماهي العلاقة التي ينبغي أن تكون بين المدرسة (التربية) المستقبلية والتنمية؟
1. الفلسفة والتربية والتنمية:
تعتبر التربية كل ما يقدم للفرد من مساعدات شفهية أو حركية، لكي يتأهب لخوض معركة الحياة، ويتخذ – هو بدوره – مواقف من شؤون الحياة... وهذه المواقف تصبح تملي تصرفات ومواقف تعتبرها ثقافته مسائل ضرورية في الحياة[1]. ومعنى هذا أن التربية تشير في مجملها إلى كل حصيلة مكتسبة تساعد الفرد على المضي قدما في الحياة، واتخاذ السلوكات المناسبة لمختلف المواقف.
تعرف التربية في موسوعة لالاند الفلسفية بالتهذيب والتأديب كما يتقابل مصطلح التربية "éducation" مع التعليم "Enseignement"، وقد عرف لالاند التعليم بعملية توصيل معارف لشخص ما، والتربية تقال بنحو خاص على تنمية العادات السلوكية والحياة الأخلاقية بجملة معارف تكتسب بالدرس أو التعلم[2].
ويستخدم الفيلسوف وعلم الاجتماع والابستيمولوجي الفرنسي إدغار موران (1931) مصطلحي التربية والتعليم بنفس المعنى؛ حيث تكون الغاية المرجوة منهما تنمية الكائن البشري وتوجيهه إلى كل ما هو هادف للفرد والمجتمع[3]. هناك إذن ارتباط بين مصطلح التربية ومصطلح التدريس من حيث ارتباطهما في وحدة الغاية وهي الارتقاء بالفرد الإنساني أخلاقيا وسلوكيا وعمليا.
وتتقاطع الفلسفة بالتربية في ميدان "فلسفة التربية"؛ فبما أن الفلسفة على علاقة وثيقة بالواقع المعيش بكل جوانبها، فإن التربية هي ناظم الحياة، وبما أن التربية هي تنمية أفراد مجتمع معين وفق تصوره للحياة بكل جوانبها، كانت الفلسفة التي يؤمن بها المجتمع والغايات التي يتجه صوبها، والمتطلبات التي يعمل لتحقيقها، هي التي تحدد مسارات هذا النمو ومستوياته، ومادامت الفلسفة مرتبطة بشتى مجالات الحياة في المجتمع فهي - بالتالي - ترتبط ارتباطا وثيقا بالتربية[4]. وبهذا المعنى تكون فلسفة التربية وثبة نحو المستقبل أو رؤية استشرافية للصورة التي ينبغي أن تكون عليها التربية.
ويعتبر ميدان فلسفة التربية من الميادين الحديثة في القرن العشرين، وإن كانت هناك جذور بعيدة يمكن أن ترجع إلى أفلاطون الذي يرى الكثير من مفكري التربية أنه صاحب فلسفة تربوية متكاملة واضحة المعالم، حيث تتضح العلاقة الوثيقة بين التربية والفلسفة والسياسة والمجتمع.
كما تتقاطع التنمية مع الفلسفة في ميدان "فلسفة التنمية"؛ التي تحاول وضع الأطر النظرية أي القواعد والأسس التي من شأنها أن تؤطر لعمليات تحول شامل منتظر في ميادين مختلفة.
لكن ما يمكن الإشارة إليه هو أن مفهوم التنمية تغير كثيرا في مدلوله منذ الألفية الثالثة، فلم تعد التنمية تعنى فقط بالجانب المادي الاقتصادي، بل وبالكرامة الإنسانية، أي أن مؤشر التنمية تحوّل من المال والاقتصاد إلى المشاركة في اتخاذ القرار وحرية الرأي والحق في الصحة وتعليم ناجع، فظهر جرّاء ذلك مفهوم جديد للتنمية هو "التنمية الإنسانية".
- لماذا مدرسة (تربية) المستقبل
سُئِل ألبرت إينشتاين (1879 – 1955 A. Einstein) ذات مرة لماذا تهتم بالمستقبل؟ فأجاب: ببساطة، لأنني ذاهب إلى هناك؟
السؤال هنا: إذا كان المستقبل أمامنا حتميا؛ فعلى أية صورة ينبغي أن يكون عليها مستقبلنا؟ وأي حد يكون لنا مجالا لاختيار مستقبلنا؟.
من المسلم به أن مستقبل الإنسان لن يكون مسارا مرسوما سلفا، وإنما يكون نتيجة عمله وثمرة جهده؛ مادام قادرا على استخدام ما في متناول يده من وسائل، فالإنسان قادرا على خلق مستقبله مادام مزوّدا بطاقة خلاّقة، وهذا يعني أن المستقبل هو من إبداعات الإنسان وصنعه، من هنا نستطيع القول إنه قد يكون هناك قصورا في معرفة المستقبل، ولكننا على الأقل نمتلك إمكانية صناعته انطلاقا من الحاضر.
وفي الحقيقة أن التفكير في المستقبل ووضع التصورات له ليس بالشيء الجديد، ذلك أن دراسة المستقبل، أو ما أصبح يعرف بـ"الدراسات المستقبلية" من الدراسات الاستشرافية الهامة والمعترف بها، وهي من الحقول المعرفية الجديدة التي ظهرت في الستينيات القرن الماضي، ورغم حداثتها إلا أن هناك تزايدا في أعداد العلماء والباحثين والمشتغلين بالدراسات المستقبلية في الجامعات ومراكز البحوث المختلفة، علما أننا لا نكاد نجد أي اهتمام بهذه الدراسات في العالم العربي، ولربما يعود ذلك – في رأينا – إلى أننا أمة تعيش على ذكريات الماضي أكثر مما تعيش على آمال المستقبل.
يمكن اعتبار الدراسات المستقبلية مجالا معرفيا أوسع من العلم، يستند هذا المجال المعرفي على أربعة عناصر رئيسية، نذكر بعضها[5]: أنها الدراسات التي تركز على استخدام الطرق العلمية في دراسة الظواهر الخفية. وهي أوسع من حدود العلم، فيه تتضمن المساهمات الفلسفية والفنية جنبا إلى جنب مع الجهود العلمية. وأخيرا أنها تلك الدراسات التي تتناول المستقبل في آجال زمنية تتراوح بني 5 سنوات و50 سنة.
ويمكن الإشارة إلى أهمية الدراسات المستقبلية من خلال ذكر ما يلي[6]:
- إن الدراسات المستقبلية تحاول رسم خريطة شاملة للمستقبل، وبلورة الخيارات الممكنة والمتاحة وترشيد عمليات المفاضلة بينها، بإخضاع كل الخيارات للدراسة والفحص... بالإضافة إلى التنبؤ بالأزمات قبل وقوعها، مما يساعدنا على التعامل معها والاستعداد لمواجهتها.
3. علاقة التربية بالمستقبل.
تعرّف عملية استشراف مستقبل التربية، بــ«أنها مجموعة المبادئ والأسس والممارسات والعمليات التي يتم بموجبها مواءمة الأنظمة التربوية والتعليمية لتستجيب بكفاءة وفعالية لمتطلبات (العولمة) وتحدياتها السياسية والاقتصادية والتقنية والحضارية»[7]
إن العالم يشهد، وسيشهد ثورات في الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، أدت وستؤدي - بكل تأكيد – إلى تغيير طبيعة وسائل الإعلام العالمية وانتشار المعلومات، من خلال البث بالأقمار الصناعية والشبكة العنكبوتية. هذا الانفجار المعرفي والتكنولوجي نجم عنه العديد من التغيرات في كافة المجالات لا سيما في المجال الاجتماعي أين نشهد تغيرا وانقلابا في القيم والعلاقات الاجتماعية.
لا يختلف اثنان في أن ثورة المعلومات التي يشهدها العالم الآن، أحدثت - ومـا زالت تحدث - طفرة هائلة في مختلف مجالات المعرفة، وانفجارها المتسارع، حيث تضاعف حجم المعرفة، لم تعد الثورة المعرفية محدودة زمانا ومكانا، بل أصبحت مطلقة، وفي حقيبة الإنسان، لكننا نؤكد أنه ينبغي علينا أن نكون مساهمين في انتاج المعرفة، وفي التحكم فيها وفي تدفقها.
لقد قيل إن المعرفة قوة، بل هي المصدر لكل قوة اجتماعية وثقافية واقتصادية، من حيث هي تشكل دافعا أساسيا لكل الأنشطة الإنسانية المختلفة. لذلك فإن مهمة التربية والتعليم ليس فقط إعداد المتخصصين في المعرفة، بل وأيضا الفاعلين في بناء صرح المعرفة، والاستخدام الأفضل لمصادر المعلومات والمعرفة.
بشكل عام، إن المستقبل هو مستقبل المعرفة والتكنولوجيات المختلفة، لذلك يجب على العمل التربوي مواكبة هذا الكم الهائل من الانفجار المعرفي والتكنولوجي والمعلوماتي، واستخدام تلك الأساليب التكنولوجية في العملية التعليمية، من أجل أن تكون المدرسة – مدرسة المستقبل – عصرية المعلومات وحديثة المناهج، من أجل تحقيق القوة والتنمية.
4. مهام التربية المستقبلية:
لزاماً على التربية والتعليم مستقبلا أن يعملا على إعداد جيل قادر على التعامل مع هذه التغيرات، لأن كل تربية وتعليم منعزل عن المجتمع وما يحدث فيه من تغيرات بالضرورة تربية عقيمة وتعليم لا طائل من وراءه. ذلك أن التربية لا تتصف بالفعالية ما لم تكن قادرة على تعميق الصلة بين المجتمع وأفراده، وقادرة – في نفس الوقت – على إحداث تنمية شاملة في عالم متغير، يتطلب هذا الأمر من منظومة التربية والتعليم أن يغيرا فلسفتهما ومناهجهما، لمواكبة للتطورات والتغيرات، ولمواجهة هذه التحديات، لأن حركية المجتمع وتطوره وتغيره يستلزم أن يواكبه تغير في العمل التربوي والتعليمي.
من هنا كانت الحاجة إلى الاهتمام بالمستقبل، وينبغي أن يكون هذا الاهتمام مبنيا على أسس علمية وليس مجرد تمنيات، ذلك لأن استشراف المستقبل كفيل بأن يجعلنا نفكر في البدائل التي من شانها أن تحقق لنا التنمية على كافة الأصعدة.. على أن تكون المدرسة والتربية مساهما فعالا في تحقيق هذه التنمية، ولا يتحقق ذلك إلا إذا اندرجت المدرسة في عملية التنمية الاجتماعية.
إن العمل التربوي هو عمل مستقبلي، فنحن نقوم بتربية النشء على الصورة التي ينبغي أن يكونوا عليها مستقبلا، وتتشارك هنا التربية بما هي تنشئة اجتماعية أو التربية بما هي عملية تعليم وتعلم.
- المدرسة المستقبلية والتنمية
يقصد بمدرسة المستقبل تلك المدرسة المنفتحة على الجديد من المعارف والمعلومات، والتي تساير مستجدات العولمة، وتواكب التغيرات السريعة التي تحدث في العالم. لذلك تهدف مدرسة المستقبل إلى تطبيق المرونة في بناء المنظومة التربوية، والتركيز على التعلم الذاتي، وتجديد طرائق العمل تخطيطا وتدبيرا وتسييرا وتقويما ومراقبة، مع الأخذ بالمعلوميات والتكنولوجيا المعاصرة، وإعداد متعلم كفء قادر على توظيف موارده ومهاراته وخبراته توظيفا جيدا، حيث يدمجها في وضعيات جديدة معقدة ومركبة. وينضاف إلى ذلك، أن مدرسة المستقبل هي مدرسة جديدة وحداثية، تسعى إلى تحفيز المدرسين معنويا، وتشجيعهم ماديا وماليا، وتكوينهم تكوينا جيدا على أساس التكوين المستمر لتحقيق التنمية الشاملة والمستمرة، بله عن تطوير المناهج والمحتويات وطرائق التدريس ووسائل الإيضاح وأدوات التقويم والمراقبة والتصحيح. كما تعمل هذه المدرسة على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، والإقبال على التغيير والتجديد والتحديث، مهما كان نوع هذا الجديد أو طبيعته أو مصدره[8].
من المسلّم به، أن الإنسان هو محور العملية التربوية (المُربي والمتربي / المعلم والمتعلم)، كما يعدُّ في الآن ذاته أساس العلمية التنموية، ولذلك فإنه لا حديث عن التنمية في غياب الإنسان الذي يصنعها، إن الإنسان هو المعادلة الأساسية في التنمية لأجل تحقيق النهضة، التي تهدف بالأساس إلى تلبية احتياجات الفراد الأساسية.
إن المدرسة هي المؤسسة – أكثر من أية مؤسسات أخرى – المؤهلة لصناعة مجتمع المستقبل، من هنا كان لزاما على المدرسة المستقبلية الإعداد الأمثل للإنسان الذي يأخذ على عاتقه صنع التنمية، وعلى المدرسة المستقبلية الانخراط وبقوة في الإسهام في كل عملية تنموية، الأمر الذي يستوجب على تربية المستقبل العمل على زيادة الارتباط بينها والتنمية.
إن استشراف علاقة التربية بالتنمية في وطننا العربي عامة لا يبعث على الاطمئنان، وأن المستقبل لا يبشر بأي تفاؤل من الحاضر الذي نعيشه. إن الملاحظ أن هناك خللاً في منظومتنا التربوية أدى إلى فلشها في الإسهام في تحقيق التنمية، بل يمكن القول أن هناك تباعدا بين الفعل التربوي التعليمي والفعل التنموي، جعل من المدرسة مؤسسة بعيدة عن أي إسهام في العملية التنموية. والحقيقة أنه أصبح من الواضح أن أي تخطيط للتنمية في غياب المدرسة والتربية لا يُعدُّ تخطيطا متوازنا.
ومما لا شك فيه أن التنمية المستدامة لا يمكن تحقيقها من خلال التصنيع أو الاقتصاد فحسب؛ بل نحن نحتاج فوق ذلك تغيير استراتيجية التفكير، من خلال فرض نوعية تعلم وتعليم على جميع مستويات العملية التعلمية من برامج ومناهج وأهداف... الخ. ويتحقق ذلك من خلال تحديد وصياغة فرص التعلم القائمة على احتياجات المجتمع المحلي من خلال تطوير الكفاءات اللازمة لدعم تطوير النماذج المدرسية ومسارات التعلم المخصصة التي يمكن إعادة صياغتها.
وأيضا بناء الشبكات الداعمة للتعلم القائم على الخدمات، وتحقيق الأثر المجتمعي من خلال الربط بين مجموعات العمل والتعلم الطلابية بغية تطوير المهارات والمعارف الأساسية بمساعدة المؤسسات الباحثة عن حلول إبداعية[9].
خاتمة:
إن التربية عملية حيوية، وهي تعدُّ مدخلا هاما للتنمية وصيرورة تطور المجتمع، وعلى مدرسة المستقبل من هنا ينبغي الاهتمام بالتربية وإعطاءها مكانتها التي تستحقها داخل منظومة المجتمع. وبالتالي فكل منظومة تعليمية لا تنخرط في الإسهام في العملية التنموية هي بلا شك منظومة بائسة لا تحقق الغاية المرجوة منها.
---------------------------------------------------
[1]- أنظر إلى: سلاد بونواة، التربية والتعليم بين ما هو منشود والواقع الجزائري: اقتراب أنثروبولوجي وتاريخي لمفهوم التربية، مجلة المواقف للبحوث والدراسات في المجتمع والتاريخ، العدد1، 2007، ص12.
[2]- أندري لالاند، الموسوعة الفلسفية، تر/خليل أحمد خليل، مجلد 4، منشورات عويدات، ط2، بيروت، 2001، ص322.
[3]- صورية لقاط زيتوني، ابستمولوجيا التركيب وفلسفة التربية عند إدغار موران، دار الأيام للنشر والتوزيع، ط1، الأردن 2015، ص75.
[4]- المرجع نفسه، المكان نفسه.
[5] - محمد إبراهيم منصور، توطين الدراسات المستقبلية في الثقافة العربية: الأهمية والصعوبات والشروط، مجلة أوراق، العدد20، وحدة الدراسات المستقبلية، الإسكندرية، 2016، ص22.
[6]- نقلا عن: محمد إبراهيم منصور، توطين الدراسات المستقبلية في الثقافة العربية: الأهمية والصعوبات والشروط، مجلة أوراق، العدد20، وحدة الدراسات المستقبلية، الإسكندرية، 2016، ص27.
[7]- نقلا عن: د. عبد المقصود سالم جعفر، تربية المستقبل: المفهوم والأهمية ومناهج البحث، من الموقع الالكتروني:
[8]- جميل حمداوي، نظرية مدرسة المستقبل، مقال إلكتروني: https://www.nador24.com
[9]- نقلا عن، مدارس المستقبل، عدد فبراير 2016، وحدة جيمس للمعلومات، 2016، ص24.
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 16 نوفمبر 2020