
كونية هابرماس بين اليوتوبيا و الواقع
المؤلف : الباحث / د.كحال بوبكر
المؤسسة:قسم الفلسفة،تخصص:الوسيط الثقافي المعاصر، جامعة وهران2
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث :الأنساق، البنيات النماذج والممارسات، جامعة وهران2
الكونية le cosmopolitisme فكرة تعني في مجملها أنَّ الطبيعة البشرية أخلاقية و أنه لكل فرد الحق في العيش و الحماية من دون النظر الى عرقه أو دينه أو لغته، و المواطن العالمي هو ذلك الشخص الذي يتجاوز الأطر المحلية و ينأى عن الخلافات الإثنية و العرقية معتبرا العالم كله موطنه، وهذه الفكرة ضاربة في أعماق الفكر الفلسفي من ديوجين الكلبي Diogén de Sinope ( 413 ق م، 327 ق م) الى تواصلية يورغن هابرماس Jurgen Habermas (1929)، حيث عمل هذا الأخير على إعادة تفعيل مشروع كانط الكوني معتبرا بأنّ الكوسموبوليتية ليست حلما طوباويا بل فكرة يمكن تجسيدها على أرض الواقع، و لكن الطرح الهابرماسي لهذه الفكرة يأتي في ظروف و سياقات و ملابسات جد معقدة تختلف تماما عن ظروف كانط والأطروحات السابقة لها. و منه فالإشكال الذي نطرحه من خلال ما سبق هو: كيف أعاد هابرماس صياغة فكرة الكونية وفق الظروف الراهنة؟ و ما مدى مسايرتها للواقع و الظروف الراهنة؟
تبرز مقولة الكونية في فكر هابرماس في جل أعماله، و ما يهمنا في هذا المقام مشروعه الكوني في شقه السياسي، حيث دعا في أكثر من موضع الى مواطنة عالمية و دولة كونية تتشكل انطلاقا من تبني قيم و حقوق الإنسان متجاوزة تلك النظرة الضيقة للإنسان القائمة على الجنس واللون و العرق و اللغة، و التي تشكلت على أساسها الدولة الوطنية في السابق، معتبرا أن هذا التنظيم السياسي أي الدولة الأمة يعيش أزمة، وأنه في طور الأفول لعدة أسباب أهمها العولمة، و من هذا المنطلق " حاول هابرماس إيجاد بديل للدولة الوطنية التي انحصر دورها ...و تراجعت شرعيتها إثر الضغط الكبير الذي تمارسها عليها المؤسسات الكبرى و الشركات المتعددة الجنسيات التي تحرك الاقتصاد العالمي"[1] ، و البديل الذي يقترحه علينا يتمثل في مواطنة دستورية، أي مواطنة قائمة على الدستور و هذا من أجل تجاوز الوطنية التي كانت قائمة على عدة اعتبارات أخرى كاللغة و الدين و العرق و التاريخ المشترك، و هذا ما دعا اليه في كتابه الاندماج الجمهوري l’intégration républicaine (1998) بقوله: " تقرُّ أطروحة الوطنية الدستورية غياب أي رابط مفاهيمي بين القومية و الجمهورية، أي بين الجماعة العرقية ethnos و الشعب السياسي demos خارج صدق التاريخ " [2] ، أي أنه بعدما كان الولاء للجماعة في الوطنية القومية، يصبح الولاء للدستور و حقوق الإنسان، و من خلال هذا الرابط الدستوري بالإمكان الانتقال من الإطار الإقليمي المرتبط بالدولة الأمة الى الإطار ما بعد وطني أي كوني، بحيث يلتزم الأفراد بقيم أخلاقية كونية، وتنظم علاقاتهم وفق قوانين دستورية تحررهم من مفاهيم الأمة و العرق و اللغة ....الخ.
تعمل الوطنية الدستورية على تحقيق الحرية الفردية و الجماعية، و لما كان هذا هو هدفها فإنه لابد أن تنبثق من السلطة التواصلية للمواطنين التي يجب أن تكون مرتبطة بإجراءات ديموقراطية لتسهيل ظروف التواصل و الحوار، و المعيار الأساسي للديموقراطية ينبني على التعاقد الحر و ليس على الهوية القومية، كما تستند هذه هذه الديموقراطية على أخلاقيات النقاش، فنمط الإجراء الذي تحدده السياسة النقاشية هو قلب المسار الديموقراطي[3]
يستدل هابرماس على إمكانية تحقق مشروعه الكوني من خلال الاتحادات التي ظهرت على مستوى المحلي كالاتحاد الأوروبي الذي يمثل نموذجا لكيان ما بعد الدولة الأمة [4] ، كما يستشهد بالتجربة الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية و الذي يشخص بامتياز انحصار المواطنة في وطنية دستورية.
إن النزعة الكوسموبوليتية التي دعا اليها هابرماس و نادى بها كانط سابقا لم تعد فكرة طوباوية بل أصبحت واقعا نعيشه و نلاحظه من خلال الكيانات التي أصبحت تتشكل في جميع المستويات، فاقتصاديا مثلا ظهرت عدة تكتلات اقتصادية من بينها الاتحاد الاقتصادي الأوروآسياوي و مجموعة الثماني G8 و تكتل دول البريكس BRICS و عدة مجموعات اقتصادية أخرى، أما في الجانب السياسي فلقد عرف العالم بروز عدة اتحادات كالاتحاد الإفريقي و اتحاد دول أمريكا الجنوبية و الاتحاد الأوروبي و الجامعة العربية...الخ، كما تعمل " ثورة المعلومات و الاتصالات على توحيد العالم على غير صعيد فعلى الصعيد الإعلامي بتحويله الى قرية كونية، ثم على الصعيد الاقتصادي بتحويله الى سوق عالمية واحدة ... و حتى على الصعيد البيئي يتحول العالم الى وسط حيوي في مواجهة مشكلات التلوث و الارتفاع المتزايد في حرارة الأرض" [5]
لا تقلُّ المتابعة النقدية التي حظي بها مبدأ الكونية لهابرماس من لدن نقاده عن تلك التي حظي بها الأمر المطلق الكانطي[6]، حيث اعترض العديد من النقاد على أطروحة هابرماس الكونية معتبرين أنها مجرد أفكار غارقة في اليوتوبيا ، مفرطة في المعيارية و ذات مثالية أخلاقية زائدة عن اللزوم، و هي غير قابلة للتحقيق على أرض الواقع، حيث يقول الدكتور علي حرب (1941) في كتابه تواطؤ الأضداد:" إنّ العالمية الجديدة، بما هي تفكير المرء بأنَّ العالم موطنه و الكوكب مداه، و بما هي سعي الى صوغ قيم بشرية كونية و جامعة قد بقيت مجرد موقف طوباوي، و لم تجد طريقها الى التحقق في مواجهة التعاليم الدينية قديما و منطق الدول القومية حديثا " [7]، فسبل تحقيق مواطنة عالمية و دولة كونية لا تزال غير متاحة بعد و هذا لاصطدامها بمجموعة من العوائق المتمثلة في الخصوصيات الثقافية للشعوب حيث يعتبر التراث الحضاري و الثقافي للأمم مرجعا أساسيا للعديد من الدول التي تفرض عناصر الهوية و العرق و الدين و اللغة و مختلف المقومات كشرط ضروري للانتساب اليها، و في هذا الصدد يقول الكاتب و المفكر السياسي المصري السيد يسين (1933-2017) في كتابه أسئلة القرن الحادي و العشرين ، الكونية و الأصولية و ما بعد الحداثة: " تتزعم مقاومة الكونية بجوانبها السياسية و الاقتصادية و الثقافية أصوليات متعددة ... فإيران باسم الأصولية الإسلامية تواصل معركتها ضد الكونية و أصوليين ماركسيين و راديكاليين يواصلون بمنهج متهافت شن معركة ضد الكونية "[8]، و بالتالي فإن أي خطاب عن الكونية يواجه رفضا قاطعا من قبل الأيديولوجيات الراديكالية التي ترى فيه قناعا للهيمنة الغربية التي تحاول بسط أفكارها و توجهاتها على العالم.
يثبت لنا الواقع بأن الدولة الوطنية في حدِّ ذاتها تعيش خطر الانفصالات من داخلها نتيجة لانفجار الخصوصيات الثقافية التي تطالب بحقها في الاستقلال و هذا ما تشهده العديد من دول العالم، و من هنا تصبح فكرة الدولة الكونية و البرلمان العالمي و المواطنة عالمية بعيدة المنال في الظروف الراهنة، و يقظة هذه النزعات العرقية و الطائفية يدعو الى ضرورة ترسيخ الدولة الوطنية أكثر من أن نتجاوزها كما دعا الى ذلك يورغن هابرماس في كتابه ما بعد الدولة الأمة ، و هذا ما يثبته لنا كذلك " قراءة الحراك الثوري و الشبابي لعام 2011 بوصفه إعادة لتأسيس التعاقد الوطني و فقا لمبدأ المواطنة، و يعلن ضمنيا أنّ ورش إعادة بناء الدولة الوطنية هي الأساس قبل أي تفكير في كيانات أوسع" [9]، و من هذا المنطلق لا يمكن التفكير في دولة كونية في هذه الظروف التي تتخبط فيها الدولة الوطنية جرّاء الحركات الانفصالية التي تبنت الخطاب الهووي كعامل مهم للمطالبة باستقلالها و الذي انجرّ عنه في الكثير من المرات حروبا أهلية، مما تسبب في ظهور عدة دويلات حديثة على أنقاض الدولة القومية أبرزها انقسام الاتحاد السوفياتي سابقا الى خمسة عشر جمهورية، كما تمزقت يوغسلافيا الى ستة كيانات و آخرها كانت السودان التي انقسمت الى دولتين شمالي و جنوبي.
على الرغم من الانتقادات التي وجهت ليورغن هابرماس في فلسفته السياسية؛ إلاَّ أنّ معالم قوة نظريته السياسية و الأخلاقية لا تكمن في طابعها العملي أو مسايرتها و راهنيتها للواقع؛ بل قوتها تكمن في الحلول التي يقترحها و الإجراءات الواجب اتخاذها للحد من المخاطر التي تواجه الإنسانية على الصعيد السياسي و الثقافي و حتى البيئي " و قد ظهرت هذه التأثيرات من خلال أنشطة المنظمات غير الحكومية العابرة للحدود الوطنية التي استطاعت أن تبلغ صوتها لصناع القرار العالمي" [10] ، كما تسمح الوطنية الدستورية التي دعا اليها بتحرير الدولة الوطنية من أخطار الأيديولوجيات المتطرفة و الهويات المنغلقة و هذا من خلال خلق أسس و شروط جديدة للانتماء للمجموعات السياسية.
-----------------
[1] د محمد عبد السلام الأشهب، أخلاقيات المناقشة في فلسفة التواصل لهابرماس، دار الورد الأردنية للنشر و التوزيع، عمان، ط1، 1997، ص 211
[2] Hbermas Jurgen, l’intégration républicaine, essai de théorie politique, tr Rochlitz, Paris, p 72
[3] Habermas Jurgen, droit et démocratie entre faits et normes, tr Rainer Rochlitz, Gallimard, Paris, P320
[4] د محمد عبد السلام الأشهب، مرجع سابق، ص 215
[5] علي حرب، تواطؤ الأضداد: الآلهة الجدد و خراب العالم، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، ط1، 2008، ص 203
[6] د محمد عبد السلام الأشهب، مرجع سابق، ص 95
[7] د علي حرب ، مصدر سابق، ص 202
[8] السيد يسين، أسئلة القرن الحادي و العشرين: الكونية و الأصولية و ما بعد الحداثة، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط1، 1996، ص 211
[9] حسن طارق، الدولة الوطنية بعد الثورات: جدل الإيديولوجيا و الهوية، من تطابق الدولة و الأمة الى دولة المواطنين، سياسات عربية، الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، العدد 9، جويلية 2014، ص 78
[10] د محمد عبد السلام الأشهب، مرجع سابق، ص 255
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 09 نوفمبر 2020