
"بول ريكور" : ضد الحرب على الجزائر
المؤلف : أ.د.بلعاليا دومة ميلود
ترجمة للمؤلف: فرانسوا دوس(F. Doss)
المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة الشلف
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث :الأنساق، البنيات النماذج والممارسات، جامعة وهران2
» لقد كان لمجلة "الروح" Esprit بمعية ريكور نفسه، في فترة ما بعد الحرب مباشرة، مواقف واضحة لصالح الاستقلال السياسي للمستعمرات التي كانت لا تزال رهن سلطة باريس الممتدة داخل إمبراطورية ما فتئت تتجمل باسم الاتحاد الفرنسي. ففي عام 1947([1] ) نشرت مجلة "الروح" ، بشأن ملف المغرب، مقالا "لأندري دو بيريتي" André de Peretti يفصل فيه بين ما تقدمه فرنسا من إسهامات من جهة، وبين البؤس الناجم عن الاحتفاظ بنظام حكم الوصاية من جهة أخرى. غير أن "بيروتي"، بخلاف ما كان سائدا في الأوساط المهيمنة على القضية، راح يبرهن على أن التطلع إلى الاستقلال الوطني لم يعد قضية بعض المثقفين المعزولين وحسب، وإنما هو مطلب حزب ذي تأثير متنامي هو حزب الاستقبال l’Istiqlal . ولم تمض حينها ثلاثة أشهر حتى كتب "أندري ماندوز" André MANDOUZE ([2]) عن الجزائر تحليلا مماثلا يبين فيه الأسباب التي تمنع من أن تصير الجزائر فرنسية، بالرغم من أن الجزائر آنذاك كانت تابعة لوزارة الداخلية الفرنسية وأن النقاش كان لا يزال يدور حول مسألة الوضع الجديد القاضي بإقبار سياسة الإدماج([3]). وفي عام 1948، سعى "ماندوز" في مجلة "الروح" من جديد إلى فضح الطريقة التي عوملت بها الجزائر كدولة خارج القانون، وأنها مرتع خصب لشتى ضروب القمع والابتزاز الممارسة من قبل الإدارة والجيش، كالتزوير النظامي للانتخابات والتهديدات والاغتيالات...([4]). حقا ، كان الايمان لا يزال عامرا بفرص قيام وحدة فرنسية، بخاصة في الجزائر، شريطة القطع الجذري مع الممارسات الاستعمارية البالية، لذلك " وجب أن تكون النزعة المضادة للاستعمار واحدة من المعارك الأكثر استمرارا لدى مجلة مونييهMounier "([5]).
في 20 سبتمبر من عام 1947 قدم "ريكور"RICOEUR مداخلة ضمن مجلة"الإصلاح" Réforme الأسبوعية البروتستانتية من أجل التعريف بالمبادئ التي يجب أن تقود سياسة عادلة في هذا المجال، معللا ذلك إجمالا في خمس نقاط :
1 ـــ يفضي الاستعمار في النهاية إلى حرية الأهالي
2 ــ الخطأ الأصلي للاستعمار في كونه يسبق كل الاعتداءات التي تنتهك الأهالي بصورة أحادية الجانب
3 ــ إن مقتضى مطلب الحرية، وإن لم ينضج بعد، يحمل من الثقل الأخلاقي أكثر مما يحمله أي عمل حضاري للبلدان الإستعمارية
4 ــ الأقليات وحدها هي من تمثل الوعي الوطني للشعوب المستعمرة ([6])
5 ــ كل تاريخ الآخرين، سواء كانوا من الهند الصينية أو من مداغشقر أو من المغارية، هو تاريخ يحيل على تاريخنا الخاص. فكفاحهم من أجل الاستقلال يتغذى من العاطفة نفسها و من التعطش نفسه للحرية الذَين كانا وراء تفجير ثورتي 1789 و 1848، وهو تاريخ ينفتح على تجاوز ممكن للدولة الوطنية التي لا تعدو مجرد لحظة إنتقالية نحو بروز وعي كوني .
وبالرغم من أن هذا التحليل بدا كما لو أنه "الأكثر اكتمالا بالقياس إلى التحاليل التي أنتجت آنذاك "([7])، إلا أنه أغفل بـُعد الاستغلال الاقتصادي للاستعمار. هذا وإن كان "ريكور" لم يغفل ذلك عن جهل، وإنما بسبب نزوعه إلى تجاوز حدود الظواهر الظرفية وانشغاله بالتذكير بعدد معين من المبادئ الثابتة . لقد كان علينا الانتظار لعدة سنوات حتى يتم تقاسم هذه المواقف مع "ريكور" تقاسما فعليا، بما في ذلك من هم ضمن أسرته الروحية ألا وهي أسرة "المسيحية الاجتماعية" Christianisme social. تأكد ذلك حين أصر "بيار بوجول" Pierre Poujol ضمن صفحات المجلة على تأكيد الفرق الموجود بين الهند الصينية وبين شمال إفريقيا، بحكم أن هذه الأخيرة أقرب إلى العاصمة ولا يفصلها عنها إلا البحر الابيض المتوسط الذي يوحد أكثر مما يفرق. ومن دون أن يجعل "بوجول" من نفسه ناطقا رسميا باسم موقف إستعماري من خلال مطالبته فرنسا باتباع سياسة إصلاحية جريئة، كان يعتقد بالأخص ، كما هو الحال بالنسبة للتوجه الأساسي لليسار في تلك الحقبة، بضرورة بقاء المستعمر هناك . ومع ذلك فإن التشدد الذي مارسته الحكومة الفرنسية إزاء حركة الدستور الجديد لبورقيبة و حزب "الاستقبال" سيسهم في تسريع وتيرة تطور الأحداث، ففي عام 1954 شهدت الجزائر اندلاع حرب في كامل ربوعها ، وقد كان "موريس فوج" M. Voge ــ بعد مشاركته فريق من المثقفين في سفرية تحقيق إلى الجزائر قبل اندلاع أول نوفمبر 1954 ــ سجل تقريرا قال فيه : "لقد تمكنا من ملاحظة خطورة الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وحالة الطوارئ التي تستدعي إيجاد مخرج لهذا الوضع قبل فوات الأوان" ([8] ) .
لقد صار الوضع في درجة من الخطورة جعل الحركة "المسيحية الاجتماعية" تكرس مؤتمرها لعام 1955 في مدينة "ليون" لمناقشة قضية "مصير إفريقيا الشمالية" . وإن كان التعاطي مع الملف التونسي بفضل "مانداس فرانس" Pierre Mendès France قد أحرز تقدما كبيرا ، غير أن ملف المغرب ظل متأخرا بسبب المواجهات المستمرة مع "محمد الخامس" الذي كان لا يزال في المنفى بمداغشقر. أما وضعية الجزائر فكانت تشهد حالة طوارئ تنبئ أنها آيلة إلى حرب غير معلومة التوقيت . الملاحظ أن التوصيات التي خرجت بها رئاسة اللجنة في نهاية المؤتمر كانت جد محتشمة، فهي وإن كانت تدعو إلى مبادرة تصفية الاستعمار البنائية(décolonisation constructive) غير أنها تتفادى ، ليس فقط ذكر فكرة الاستقلال، وإنما حتى تلك الفكرة المتعلقة بلاستقلال الذاتي للمحميات التي كان "مانداس فرانس" قد منحها الموافقة عام 1954 . لكن سرعان ما انقلب الوضع حين بُعث من جديد النقاش الداخلي لصالح تغيير رئيس المجلس الجديد، الأمين العام للحزب الاشتراكي "غي موللي"Guy Mollet ، الذي انتخب على رأس تحالف الجبهة الجمهورية من أجل إقرار السلم في الجزائر، والذي قوبل بطريقة مهينة من قبل الشبيبة المتمردة بالجزائر العاصمة في 06 فيفري 1956 ، الأمر الذي جعله ينقلب على عقبيه، ويسرع إلى تعيين "روبير لاكوست"Robert Lacoste ــ بدلا من الجنرال كاترو Catroux ــ الذي انخرط مباشرة في سياسة القمع ودفع حكومته باتجاه الحرب التي كان يصفها هو بنفسه أثناء الحملة الانتخابية "بالطيش و الانسداد". لقد تذمر " أندري فيليب" André Philip من هذا الاستسلام الطوعي بسبب أعمال الشغب ذات الطابع الفاشيستي"([9] ). فبالنظر لهذا الاستهزاء بإرادة الصناديق، وصل الاستياء الذي مس اليسار، وجميع من تبعه، إلى حد نزع المصداقية عن نظام الحكم و عن السياسة معا. ولما أعيد بعث النقاش من جديد داخل الحركة "المسيحية الاجتماعية" Christianisme social، تم إعادة تثبيت الموقف الجماعي للحركة على إثر نقاش داخلي "شارك فيه على التوالي: مونيه Monnier، شرناسكي Czarnecki، بوجول Poujol، كروسكلود Grosclaude ، فوج Voge ، ريكور Ricœur ، لوريول Lauriol " ([10]). الأمر الذي دفع بـ"بيار غروسكلود([11]) Grosclaude ، كمجند جديد و مناصر شرس لجزائر فرنسية، إلى تعليق تعاونه نهائيا مع الحركة، خاصة بعد تمكنه من التعبير عن قناعاته ضمن المدينة الجديدة Cité nouvelle قائلا: " الجزائر هي لحمنا ودمنا ... الجزائر هي فرنسا."
لكن ما أثار السخط أكثر هي تلك الاعترافات التي أدلى بها شهود عيان بشأن صنوف التعذيب المرتكبة من طرف الجيش الفرنسي باسم الجمهورية ([12]) لدرجة أن "ريكور" ومعه بعض المثقفين ــ على غرار "جون ماري دومينيك"، "روني ريمون"، "روني كابيتن"، "أندري فيليب"ــــ تكفلوا بعملية التداول الحر لكتيب كان قد صدر في مارس 1657 بعنوان "جنود الخدمة يشهدون" « Les rappelés témoignent » . في تلك الأثناء، كانت الشرطة قد داهمت منزل "هنري مارو" H. Marrou بدعوى إلزامية التفتيش على إثر مقال سبق أن نشره بتاريخ 05 أفريل1956 ضمن صحيفة "لوموند" Le Monde تحت عنوان "أقوال حرة" « Libres Propos » يحذر فيه الحكومة (الاشتراكية) من خطر استعمال القوات الخاصة، وهو الأمر الذي حمل 357 شخصية على توقيع رسالة موجهة إلى رئيس الجمهورية، كان من ضمن الموقعين عليها "روجي ميهل"R. Mehl، غوستاف مونودG. Monod ، أندري فيليبA. Philip ، روني ريمونR. Rémond ، بول ريكورP. Ricœur ، دافيد روسي D. Rousset، أندري تروكميA. Trocmé ، لابي بيارl’abbé Pierre... " معلنين فيها أن ما يقع من أحداث ليس مما يمكن وصفه بحوادث معزولة بقدر ما يتعلق الأمر بممارسة واسعة الانتشار... من شأنها أن تشكك بشكل رهيب في المسؤولية الجماعية التي نشترك فيها جميعا" ([13] ).
إن سياسة إحلال السلام بطرق تسمح للجيش بالتحكم الكلي في الميدان عن طريق تعميم استعمال أساليب التعذيب جندت ضدها عددا متزايدا من المثقفين الذين عارضوا هذا الضرب من منطق الدولة، بخاصة بعد حادثة التعذيب حتى الموت التي تعرض لها المعيد في كلية الجزائر العاصمة "موريس أودان" M. Audin ، والتي جعلت منه رمزا من رموز المقاومة وحماية حقوق الإنسان ، إذ على إثر اختفاءه يوم 21 جوان 1957 قام كل من "بيار فيدال ناكي" P. vidal- Naquet و "لورانت شفارتز" Laurent Schwartz بتشكيل لجنة تحمل اسم "موريس أودان". لقد صار ينظر إلى فرنسا كبلد تمارس فيه عمليه الرقابة بشكل نسقي خاصة على مستوى الصحافة ودور النشر، كما حصل تحديدا مع الكتاب الذي حقق نجاحا باهرا عام 1958 والذي نشره "جيروم ليندن"Jérôme Lindon لدى دار النشر "مينوي" « Minuit» ثم تم منعه مباشرة وظل ينتقل خلسة من يد إلى يد : إنه كتاب "القضية"La Question لصاحبه هنري علاق Henri Alleg وهو مناضل شيوعي ترأس مجلة Alger républicain ، ثم قبض عليه وعذب عدة أشهر، ثم استطاع بعد ذلك أن يروي كل ما شاهده وعايشه بنفسه من أساليب التعذيب([14]).
إن الشعور بالامتعاض أمام الاساليب المنتهجة باسم فرنسا سيدفع بالكثير من المثقفين إلى مد يد العون لحزب جبهة التحرير الوطني FLN ، وهو الأمر الذي حصل مع "فرنسيس جونسون"F. Jeanson، وهو أحد المتعاونين مع مجلة الأزمنة الحديثة Temps modernes ، حيث قام بتكوين شبكة سرية كاملة من حوله، وهي الشبكة التي اشتهرت باسم "حاملي الحقائب" Porteurs de valises ([15] ). وحينما سلط القمع عليها بسبب دفاعها عن جبهة التحرير الوطني FLN جوبه الأمر مباشرة بمعركة بيانات سوف تعمل على إستثارة الجمرة و الشروع في معركة اعتراض حقيقية تمخض عنها بيان (Le manifeste des 121) ضم 121 فنانا وكاتبا ، أعلن فيه الجميع بدون مراوبة عن "الحق في العصيان". لقد تم تحضير نص البيان في محيط دائرة "الأزمنة الحديثة" "لسارتر " J.P. Sartre ثم نشر على جريدة "لوموند" بتاريخ 05 سبتمبر 1960. لقد صنع هذا الموقف الحدث ، بسبب جذريته وتأثيره على قوات الوحدات الشابة، إذ كان وراء عقوبات قاسية ومظاهرات إحتجاجية ضد القمع و فرصة لمناهضة العريضة المضادة لبيان صدر من مثقفين فرنسيين كان قد ظهر في 07 أكتوبر .
في سياق هذه المعارك حدد "ريكور" الاتجاه العام لمجلة "إسبري"Esprit الذي بدا حينها غير منسجم نوعا ما مع موقف بيان الـــ: 121 . وعلى الرغم من أن "ريكور" تقاسم معهم عملية الإدانة الشاملة للحرب ولأهدافها المعلنة وغير المعلنة وكذا لأساليبها التعذيبية التي لا تطاق، غير أنه لم يجاريهم في مسألة العصيان، لأنه اعتبر أن دعوة الشباب الفرنسي إلى الفرار من الحرب هو بمثابة وضع الذات نفسها ، كذات مثقفة، ضمن وضعية تمرد وفرار، وبالنتيجة قبول خيار اللاشرعية: " لقد كان لريكور دورا حاسما في جعلنا نتجنب الأمرين، أعني إما أن نقبل باللاشرعية وإما أن نبارك عمليات فرار الشباب مع الاحتفاظ بأنفسنا خارج اللعبة" ([16]).
كان على "ريكور"، باعتباره رئيسا للمجلة التابعة لحركة المسيحية الاجتماعية([17]) ، أن يتخذ موقفا واضحا من مسألة العصيان، إذ توجب عليه أن يجابه سؤالين بصدد موقف العصيان: من جهة، هل من الواجب نصح الشباب بالتزام موقف العصيان، ومن جهة أخرى، هل من الواجب محاكمة من اختار هذا الموقف؟. لقد كان الدفاع عن موقف العصاة و التضامن مع قناعاتهم العميقة في مواجهة القمع بالنسبة إلى "ريكور" أمرا بديهيا. فهو كان يقاسمهم تحليلهم لمسألة عدم شرعية هذه الحرب، وذلك من منطلق إيمانه بأن ما يبديه هؤلاء العصاة من رفض للتعاون يتلائم تماما مع مواقفه الذاتية المعادية للاستعمار، و لعل السياق كان يشجع ويبرر هذا التمرد حيث رفض "دي غول" De Gaulle اتباع أسلوب المفاوضات بالإضافة إلى عدم مبالاة اليسار الرسمي آنذاك، الأمر الذي قاد "ريكور" إلى القول بأن " أهداف العصاة هي أهدافنا"([18]) متذرعا بأسباب ئلاثة: في المقام الأول ، إعتبار العصيان كأقصى فعل ممكن باتجاه دولة لم يصل فسادها الدرجة التي تجعل منها دولة فاشيستية. وفي المقام الثاني، اعتبار مساعدة جبهة التحرير الوطني (الأفلان) بمثابة إنخراط في حرب ليست هي حربنا: " إذ ليس المشكل في دعم الأفلان بقدر ما هو في العمل على فك ارتباط الفرنسيين بالحرب" ([19]). أما في المقام الثالث، ضرورة التأكيد على أن بلوغ المفاوضات هدف يتوسل المرور بالأعمال الجماهيرية بدلا من أفعال التمرد الفردية.
لقد شجع هذا الموقف، الذي حرر بعد نشر بيان 121 في 19 سبتمبر 1960، على التضامن مع دعاة العصيان، ولكن في نفس الوقت أثار ردود أفعال مضادة، على غرار ما ورد في مسودة الاعتراض على تحليل "ريكور" المحررة من طرف واحد من أشد معجبيه وهو "دانيال غالون" Daniel Galland، والتي رفض نشرها لاحقا، مفضلا البقاء ضمن موقف بيان 121 ومتسائلا " عن مدى مشروعية إمكانية عصيان الدولة من دون القضاء عليها؟" ([20]). لم تكن فرنسا،بالنسة إل هذا الأخير ، مهددة بالفاشيستية البوليسية فقط، إنها كانت تعاني ، منذ 1954 إلى 1962، من مرض الفاشيستية الخارجية، أو بالأحرى، الفاشيستية الجزائرية"([21]). وهكذا تمت إدانة موقف "ريكور" من داخل محيط الحركة "المسيحية الاجتماعية" نفسها، سواء من جانب اليسار أو جانب اليمين، فكما أن أمين الحركة "جاك لوشار "J. Lochard لم يقاسم "ريكور" تحفطاته بشأن مسألة العصيان، كذلك كانت ردة فعل الأستاذ الجامعي "تيودور رويسن" T. Ruyssenعلى مقال "ريكور" بالطعن في فكرة لاشرعية الحرب نفسها مصرحا "بأن فرنسا لم تسبق إلى إعلان الحرب على الجزائر ، و لا صالح لها في أن تعلنه على الجزائر اليوم"([22]). هذا فضلا عن اعتراضه على الأحادية التي وسمت عرض "ريكور" حين لم يشر إلى إرهاب الأفلان FLN والحكومة المؤقته للجمهورية الجزائرية GPRA "التي لم تتوان في إطلاق الرصاص على شاطئ للمستحمين الأبرياء" ([23]).
بالمقابل حظي موقف "ريكور" بتأييد جماعي له ضمن المبادرة التي قامت بها فيدرالية التربية الوطنية (FEN) تحت شعار " دعوة من أجل سلام تفاوضي في الجزائر" ، مما فسح المجال لتداول ثالث عريضة تم نشرها لاحقا ضمن مجلة التعليم العام Enseignement publique عدد أكتوبر 1960 وهي تعد الصوت الشهري لهذه الفيدرالية (FEN) . ما ميز هذه العريضة الثالثة عن بيان 121 أنها لا تعلن عن الحق في العصيان بل تعفيه تماما مصرحة "بعدم إمكان قيام جزائر فرنسية" وأنه "في ظل هذه الوضعية المعطاة لا يمكن تفادي أزمة الوعي و روح التمرد لدى الشباب" . لقد تمكنت هذه العريضة الثالثة من جمع عدد كبير من التوقيعات، وتحديدا من قبل اليسار الجديد الذي لم يعترف به بعد على مستوى الأجهزة القائمة. لم يكد يمضي شهر أكتوبر حتى بلغ عدد التوقيعات 16 ألف توقيع، من ضمنها طبعا، توقيع "ريكور". ولقد تلقت هذه العريضة الموقعة من طرف "ريكور" دعم مسيري مختلف هيئات فيدرالية التربية الوطنية على غرار : "دانيال ماير" D. Mayer ممثلا عن رابطة حقوق الأنسان،"بيار غوداز"P. Gaudez ممثلا عن L’UNEF)) ،"جون ماري دوميناك"Jean-Marie Domenach عن مجلة "إيسبري" ومجموعة من الجامعيين على غرار: "رولان بارت"R. Barthes، "جورج كونغيلام"G. Canguilhem ، "جان كاسو"J. Cassou ، "جان دريش"J. Dresch، "جان ديفينيو"J. Duvignaud ، "روبير إسكاربي"R. Escarpit ، "روني إتيانبل"R. Etiemble ، "موريس دي كوندياك"M. De Gandillac، "بيار جورج"P. Georges ، "جان غيهينو"j. Guéhenno ، "فلاديمير جانكيفيليتش"V. Jankélévitch، "إرنست لابروس"E. Labrousse ، "جورج لافو"G. Lavau ، "كلود لوفور"C. Lefort ، "جاك لوغوف"J. Le Goff، "موريس مارلوبونتي"M. Merleau-Ponty ، "إدغار موران"E. Morin ([24])...
غير أن الإلتزام لم ينته عند حد توقيع البيانات . وصار كل من لا يقاسم السلطة قضيتها عرضة للقمع مثلما حصل مع "موريس فوج"M. Voge حين اتهم في شهر مارس 1957 " بتهمة الاعتداء على السيادة الترابية"، وكذلك ما حصل في الوقت نفسه مع رفاقه التسع الآخرين بتهمة المشاركة في "لجنة وطنية للإعلام والتحرك من أجل الحل السلمي لمشاكل شمال إفريقيا". وفي 13 ديسمبر شهدت الساحة حادثة توقيف القس إتيان ماتيوEtienne Mathiot ، شقيق زوجة "جاك لوشار"، بمدينة بلفور Belfort ، وذلك بسبب استضافته لأحد قيادي الأفلان المدعو "سي علي"Si Ali وتمكينه من المرور إلى سويسرا على متن سيارته، وحين داهمته الشرطة في بيته سارع إلى الاعتراف بأنه الفاعل، و حتى يبعد أصدقاءه وعائلته عن كل شبهة، اخترع قصة مفادها أنه أخفى هذا الشخص داخل سيارته " ([25] ). سيظل "ماتيو" محتفظا بالسر إلى مماته، وتم الحكم عليه بثمان سنوات سجنا نافذا بعد أن شهدت محاكمته اهتماما واسعا. لقد صرح ابنه قائلا: "لم يكن والدي ذا روح نظامية، بل كان محض شاهد" ([26]). كان "ماتيو" أثناء الحرب يقاوم تحت اسم مستعار هو لوسيان فايرLucien Fayer ، الأمر الذي لم يمنعه من الإدلاء لجريدة "التحرير" La libération بشهادة لصالح أناس تعاونوا بشكل سلبي، وبعد أن أدخل سجن بزونسون Besançon صرح لجريدة "لوموند" Le Monde قائلا: " لم أقبل بمنحه حمايتي إلا لأنني كنت أعرف بأنه قائد سياسي. لو كان قاتلا لكان تصرفي معه مغايرا تماما ... لهذا السبب أنقذت "سي علي" من أبحاث الشرطة"([27]) .
شكلت المحاكمة التي تلت توقيفه فرصة لشهادات متعددة: عل غرار شهادات كل من شارل واستفالCharles Westphal ممثل الفيدرالية البروتستانتية لفرنسا، و أندري فيليبAndré Philip ، وبول ريكورPaul Ricœur ، وفالاس Fallas، وماندوز Mandouze، والعميد لوراتDoyen Lerat . حين افتتحت جلسة المحاكمة في 07 مارس 1958، كان قفص الاتهام يضم كلا من القس "ماتيو"، و الطالب في كلية الطب "عبدالرحمان"، والطالبة الكاثوليكية المناضلة "فرانسين رابيني"Francine Rapini، بينما كانت القاعة تعج بمئات الأشخاص، لدرجة أن الصحافة الباريسية تنقلت لمتابعة هذه المحاكمة ذات القيمة الرمزية الكبرى. حينها صرح "ريكور" أمام الجلسة قائلا: " إذا كانت الدولة هي من يثبط الأمة، فعلى المواطنين واجب الدفاع عن القيم الأساسية لموروثنا، حتى وإن كان ذلك في حضن اللاشرعية، طالما أن الدولة لا تحترمها" ([28]) . كاتت تربط بين "ريكور" و"ماتيو" علاقات جد خاصة وقوية، ففضلا عن الصداقة و النضال المشترك، ارتبطا على المستوى العائلي ، بما أن الأخ الأكبر في عائلة "ريكور" وهو "جان بول"Jean-Paul ، كان متزوجا من "فرانسواز" إبنة "ماتيو" التي تذكر قائلة "بأن أبي لم يكن إيديولوجيا، وهو الأمر الذي أثر في "ريكور" كثيرا"([29]). أما "أندري فيليب" فقد شهد أمام الجلسة قائلا: "حين التقيت أول مرة في عام 1927 "بإيتيان ماتيو"، شعرت مثل الجميع مباشرة، بصفاء سريرته"([30] ). ولما طلب منه العودة إلى مكانه، في نهاية كلمته، لم يعثر في القاعة على مقعد للجلوس ، راح يسأل، وسط ضحكات وتصفيقات الحاضرين : " هذا مكان فارغ، هل بإمكاني الجلوس هنا؟ "، وكان يقصد الجلوس بجانب "ماتيو " على مقاعد قفص الاتهام .
لقد صرح "ريكور" إلى عائلة "إيتيان ماتيو" بشهادته عن صداقته بهذا الأخير حين دعي إلى حضور جنازته بمقبرة Lion-sur-Mer قائلا: "كان ماتيو شخصا جذابا، وكنت دائما شديد التأثر بتوافق أحلامه مع الكثير من المشاهد والعناصر، كما لو أنه كان يجسد ما كان "باشلار" يدعوه بـ.: تخيل المادة Imagination de la matière : كان ذلك هو الماء، هو النار، هو السحب، وهو الأرض. هنا يكمن الجانب الحالم من طيبته. ولكن بالمقابل كان هناك جانب آخر في شخصيته، وهو تحديدا ما يتعلق بالحيلولة دون أن ينحل الحلم لديه إلى مجرد رغبة أو استيهام، إنها الكلمة، كلمة الشاعر التي ما فتئ يطالب بها باشلار ، أعني تلك التي تصنع من الصورة ميلاد كلمة، وليس مجرد تجاوز الإدراك" ([31] ).
كان يجب انتظار أمسية الاحتفاء التذكارية المنظمة من قبل "جاك موري" في 1994 ليتم الإعلان عن حقيقة ما وقع ، حيث كان بعض أصدقاء القس "ماتيو " مدعوين، من بينهم محاميييه "أندري ديما"A. Dumas والدكتور لولونغ Dr. Lelong و بمعية "ريكور" الذي أعاد الكلمة نفسها التي قالها أثناء مراسيم تشييع الجنازة. وحين تدخل "جاك لوشار"، أعلم الحاضرين بالدّين الذي لم يف بسداده "لماتيو" ، وأنه آن الأوان للقيام بذلك و هو أن يفشي سر ما حدث حقيقة مع ماتيو : " لقد كان على "إيتيان" [ماتيو] أن يتعامل مع واقع مساعدة هؤلاء الشبيبة المنضمين إلى الأفلان، ولم يكن يدري ما يفعل، فاتصل بي، وكنت أنا حينها قسا شابا بمدينة مونبيلليار Montbéliard الحدودية، وطلب مني إذا كنت أستطيع تمكينهم الاجتياز إلى سويسرا ، وبما أني لم أكن هناك، قام أحد أعضاء الكنيسة الشبان بمساعدة "سي علي" عبر الممرات الجبلية وليس على متن سيارة "ماتيو" مطلقا ([32]). حينئذ فقط، ولأول مرة ، تمكن الحاضرون، بما فيهم محامي ماتيو وصديقه "ريكور"، اكتشاف الحقيقة ، أو بالأحرى، إكتشاف عظمة كذبة.
إن موقف المعارضة الذي التزم به فريق مجلة إسبري بصدد حرب الجزائر حولت "الأسوار البيضاء"Les Murs Blancs إلى قلعة محاصرة، إذ صارت جماعة الشخصانيينCommunauté personnaliste مستهدفة بشكل علني من قبل المنظمة العسكرية السرية (L’OAS) ، مما دفع بالعائلات إلى الاستعانة ببعض طلبة أونتوني الذين كانوا يشغلون قاعة البينغ – بونغ، من أجل القيام بدوريات ليلية مصحوبين بالمصابيح اليدوية للإعلام عن أي تحرك مريب. وحين ظهر رئيس الوزراء "ميشال دوبري"Michel Debré على الشاشة منهكا عام 1961، طالبا من مواطنيي الجهة الباريسية أن يستعدوا للقاء المروحيين بهدف ثنيهم عن محاولة الانقلاب،"لم يتوان "بول ريكور" ووالدي لحظة عن دخول فيلاكوبلاي بقوة من أجل التصدي بأجسامهم لمنع تقدمهم" ([33]).
بينما كان ريكور يصحح أوراقه الخاصة بشهادة التبريز في الفلسفة، تفاجأ على حين غرة بمداهمة الشرطة له في الساعة السادسة صباحا، وقامت بتفتيش منزله في "الأسوار البيضاء" ثم قادته إلى مراكزها حيث تم احتجازه هناك يوما كاملا، و ذلك بدعوى الاشتباه بالقيام بجرائم تمس أمن الدولة. وعلى إثر ذلك قامت مباشرة نقابات التعليم العالي الثلاث بعقد ندوة صحفية والدعوة إلى الإضراب احتجاجا على الاعتقال الذي يتعرض له عدد من الجامعيين. ولم يكن "ريكور" وحده قلقا، بل حدث الشيئ نفسه، وفي التوقيت نفسه، مع منشط فيدرالية PSU الجامعي "ميشال أوريول"M. Oriol . لقد أثار اعتقال ريكور حينها تعاطفا من قبل عدد من الأساتذة والطلبة ممن وقعوا على جملة من البيانات الاحتجاجية، على غرار أساتذة مدينة ليل الذين استجابوا، بمناسبة اجتماعهم لتحضير اجتياز الباكالوريا، لمبادرة أستاذ الفلسفة "جاك ميلهو"J. Milhau القاضية بشجب "الإجراءات التمييزية" التي راح صحيتها "ريكور". كما وقع أصدقاءه القدامى في الأسر على نص احتجاجي ينددون فيه بالممارسات الجارية معلنين أن " تعدد مثل هذه المضايقات غير مقبولة ، خاصة حين تمس واحدا من أبرز المفكرين الذين يحق لفرنسا أن تفتخر بهم حاليا... إننا نعرف "بول ريكور" منذ 21 سنة، أي منذ جمعتنا الحرب صدفة في معسكر أوفلاغ الألمانيOflag ... إن الاعتداء على "بول ريكور" على هذا النحو، هو إعتداء علينا جميعا"([34]). لقد شهدت "الأسوار البيضاء" تدفقا للشهادات التضامنية الودية، وكان من بين الرسائل الخمسين التي تلقاها ريكور ، تلك الكلمة الوجيزة والقوية التي كتبها "تيودور مونود"Théodore Monod في 10 جوان،و هو الذي تظاهر في اليوم نفسه الذي تم فيه توقيف "ريكور" ، وكان نص الكلمة ما يلي: " بكل تعاطف حي وأخوي". أما عن "إيمانويل لفيناس"Emanuel Levinas فقد كتب إليه قائلا: " أعرف بلا شك أنك لست بحاجة إلى هذه الشهادة، ولكني ، فيما يخصني، أنا بحاجة شديدة لحملها إليك" ([35]).
لقد حفز موقف "ريكور" من حرب الجزائر عددا كبيرا من الشباب البروتستانتي على الانخراط، ولا يزال بيار أونكروفيP. Encrevé يتذكر الكلمة التي ألقاها ريكور في ساحة السوربون بجانب جورج غرفيتشG. Gurvitch وجانكليفيتشJankélévitch ، " لقد أذهلني كل هذا المزيج من صفات الشجاعة والذكاء والإلتزام التي جمعت هؤلاء الأساتذة الذين كانوا من اليسار داخل السوربون. كانت أعمال العنف في بدايتها حين ألقى "ريكور" كلمة مؤثرة جدا قائلا: " لم يعد يتعلق الأمر باحتكار حرية الآخرين، بل صار يتعلق الآن بالدفاع عن حريتنا ([36] ). وتزامنا مع الانقلاب الذي قام به الجنرالات ، صرح "ريكور" من داخل السوربون بأن الجامعة ليست مكانا للتصريحات السياسية، لكن الأحداث الجارية تتجاوز الإطار السياسي وتستدعي بالضرورة موقف مقاومة. بذلك كان موقف ريكور مواكبا بشكل كلي لحركة الطلبة.
حين بعثت الجبهة الجمهورية Front républicain بوحدة القوات الخاصة إلى الجزائر، اتخذ جان بوبيروJ. Boubérot ( وهو طالب ثانوي شاب، ذو الخمسة عشر ربيعا، في حالة تمرد داخل صومعته بدير ليموجParoisse de Limoge ، التي كان يديرها مجلس كهنوتي مكون من أعيان المنطقة،المعروفين أساسا بصناعة الخزف) من "ريكور" نموذجا إيجابيا للمسيحي البروتيتانتي الملتزم ([37] ) . وحين وصل إلى باريس عام 1960 لمواصلة مساره التكويني في كلية التيولوجيا، وجد نفسه بالصدفة طالبا لدى ريكور الذي أعجب به أيما إعجاب: " ما كان يثير إعجابي أكثر، أن ترى واحدا بهذا الحجم الفكري، شديد البساطة، أكثر ما يزعجه أن يعامل على غير الطريقة التي يعامل بها الإنسان العادي . لقد كنت أرى فيه أثر الفعل الديمقراطي، أعني الفصل بين النشاط الفكري الذي وهب نفسه إليه، و بين بقية الوقت الذي يعد فيه نفسه إنسانا مغمورا كسائر البشر المغمورين" ([38] ).
تعد كلية التيولوجيا بباريس منبرا من أعلى منابر مقاومة الحرب بداية الستينات، حيث كان أستاذا آخر يدرس بها و يقوم بدور منسق بالنسبة للطلبة ألا وهو "جورج كازاليس". في هذه اللحظة وجد عدد كبير من الطلبة أنفسهم في موقف إلتحام مع الأفلان وإظهار العلم الجزائري في غرفهم. ثمة إذن ضرب من الرومانسية الثورية إكتسح جيلا كاملا ممن انفتح على السياسة بسبب هذه الحرب التي تصدى لها، وكان من ذلك أن تعاطى الكثير مع السلاح لأول مرة ، وربما من دون أن يجيدوا استخدامه، ولكن فقط بهدف الدفاع عن مقرات الحركات المهددة على غرار الحركة المضادة للعنصرية و المؤيدة للصداقة بين الشعوب(MRAP) وحركة السلام وغيرها من المقرات التي كانت عرضة لهجمات منطمة الجيش السري (l’OAS) . وعلى الرغم من أن "ريكور" كان يقاسمهم قناعاتهم النضالية، إلا أنه كان يصغي إلى أفعالهم العسكرية الكبيرة بابتسامة خفية تنم عن ضرب من المسافة. لقد كان يتصرف من موقع الرجل الراشد في التعاطي مع الشباب من غير أن يمارس عليهم سلطة الوعظ أو يوهمهم بمقاسمة شعورهم المراهق. وهو بهذا كان يقوم بدور تعليمي قائم على الفصل بين الجد والهزل، "فالطريقة التي كان يتناول بها الأشياء من دون أن يضفي الطابع الإطلاقي على الفعل السياسي أثرت فينا، لأنه لم يكن في نيتنا أن نلعب دور المقاومين الجزائريين من جهة، ومن جهة أخرى كنا نرفض تشويه صورة أولائك الذين عادو ا من الجزائر وعدهم كما فعل البعض مجرمي تعذيب. "([39] ).
من بين الشباب البروتستانتي المعروفين بنضالهم في صفوف الطلبة الاشتراكيين ، و الذين تبنوا موقف ريكور من حرب الجزائر: المناضل "ميشال روكار"M. Rocard ، الذي كان ينشط باسم "جورج سارفي" Georges Servit ــ تيمنا بـMichel Servet الإصلاحي المجدد الذي حكم عليه "كالفن" بالموت سنة 1553 ــ على ما في ذلك من استفزاز للكنيسة الإصلاحية التي كان ينتمي إليها "روكار" والتي تعد "كالفن" ممثلا أساسيا لهويتها، معللا ذلك بقوله "لقد استعظمت كثيرا أن أنادى باسم ميشال سارفي، فاخترت بدلا من ذلك جورج كلقب لي، وهو لقب كان يحمله شقيق والدتي الذي كنت شديد الإعجاب به" ([40]).
في سن الثالثة والعشرين من عمره، صار "ميشال روكار" رئيسا للطلاب الإشتراكيين و الذين سيقحمهم ضمن الاتحاد الوطني للطلبة الفرنسيين. لقد كان مهمة طلبة (SFIO) في الخمسينيات هي الدفاع عن قيادة UNEF ضد الخطر الأحمر والخطر الإكليريكي، غير أن هذا الدفاع لم يكن ليرضي "ميشال روكار"، ليس فقط بسبب ثقافته البروتستانتية وحسب، وإنما بخاصة لأنه كان يرى في حركة الشباب الطلابي المسيحي JEC الأساس الصلب لما تبقى من اليسار: " إن دفاع UNEF ضد هذا الخطر المزدوج انتهى إلى ضرب من التضامن مع المكاتب الرجعية بصورة كاملة والتي كنا نطلق عليها تسمية les Majos ، وهي تحالفات يرأسها المدعو موسيرون، ثم ميشال بيريكار، بدعم من "جان ماري لوبان Jean-Marie Le Pen"([41]). لكن "روكار" توصل، غداة اللحظة الحاسمة للإنخراط ضد حرب الجزائر، إلى زحزحة المتحكمين الكبار في مكتب الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا (UNEF)وانتزاع القيادة لصالح تحالف الاشتراكيين و أعضاء الشباب الطلابي المسيحي (Jécistes) مع الشيوعيين كقوة إضافية. فالاتحاد الوطني لطلبة فرنسا، كأكبر تنطيم تمثيلي لأربعة آلاف منخرط، وجد نفسه في الصفوف الأمامية للقيام بأعمال الاستنكار وتحسيس الشباب ضد التعذيب وضد مواصلة حرب الجزائر. الأمر الذي جعل حركة المسيحية الاشتراكية تبارك جهود "روكار" بقوة ، وكان من الطبيعي إذن أن يتعرف "روكار" على رئيس الحركة ألا وهو "ريكور".
وفي خضم النقاش حول مسألة العصيان الذي أطلقه بيان 121 وقف روكار الموقف نفسه لريكور قائلا: "كنت مستاء جدا أن أرى تلك الوجوه الكبيرة ، متكئة على أرائكها وهي تطالب، بكل أريحية، الشباب الفرنسي بأن يلقي بنفسه إما إلى السجن وإما إلى المنفى"([42]). ومع ذلك لم يقف مكتوف اليدين أمام البعد العسكري للمشكلة، بل قام بإنزال منشور سري بعنوان "الرسالة" La Lettre رفقة "أليفييه شوفريون" و"هربرت بريفو"، كان يتم توزيعة ست مرات كل شهر وموجه خصيصا إلى الضباط وضباط الصف في الخدمة العسكرية بالجزائر. كانت من مهمام هذا المنشور إيقاظ الوعي بصدد تصرفات الجيش الفرنسي الابتزازية، " وكان يحث على الاحتجاج، ولكن من داخل المجتمع الفرنسي" ([43]). بل الأكثر من ذلك ، أن "روكار" كان محور حدث سري مواز ، كان وراءه عناصر من قدامى الشباب الطلابي المسيحي JEC و من الشباب الأشتراكيين، حيث أن الكثير من الناس يجهلون، أنه أثناء لحظة إنقلاب الجنيرالات و خطر اكتساح المظليين مدينة باريس، لم تتمكن الطائرات الحربية من الإقلاع ، وكان ذلك بسبب فقدانها للمراوح. إن عناصر الشبكة التي قامت بهذا العمل هم رفاقي" ([44]).
إن الثنائي ريكور – روكار، وبمعزل عن الفجوة الجيلية، يمثل ثقافة يسار جديدة، يمكن أن نطلق عليها اليسار الثاني: ثقافة إستنكار الأجهزة والدوغمائيات من أجل تحرير ممكنات الفعل. «
المصدر:
*François Doss, Paul Ricœur : Les sens d’une vie (1913-2005), Edition revue et augmentée, La Découverte/Poche, 2008 (« Contre la guerre d’Algérie » p. 267-278)
هوامش النص:
[1] André DE PERETTI, « Prévenons la guerre d’Afrique du Nord. L’indépendance marocaine et la France », Esprit, Avril1947
[2] André MANDOUZE, « Impossibilités algériennes ou le mythe des trois départements », Esprit, juillet 1947
[3] Le nouveau statut de l’Algérie est adopté le 20 septembre 1947
[4] André MANDOUZE, « Le dilemme Algérien : suicide ou salut public », Esprit, octobre 1948
[5] Michel WINOCK, Histoire politique de la revue Esprit, op.cit.,p.333
[6] Paul RICOEUR, Réforme, 20 septembre 1947, cité par Yves BENOT, Massacres coloniaux, La Découverte, Paris, 1994, p. 141
[7] Yves BENOT, ibid., p.143
[8] Maurice VOGE, cité par Raoul CRESPIN, Des protestants engagés, op.cit., p.253
[9] André PHILIP, Le socialisme trahi, cité par Raoul CRISPIN, op.cit., p.268
[10] Pierre GROSCLAUDE est professeur de lettres supérieures ; écrivain, il a publié des ouvrages sur Herriot, Rousseau, Vauvenargues, Malesherbes et un recueil de poèmes écrits au Chambon-sur-Lignon au temps de l’occupation.
[11]Raoul CRISPIN, Des protestants engagés, op.cit., p.269
[12] Les Cahiers de témoignage chrétien publient début 1957 le « dossier Jean Muller ». Ce dernier, permanent de l’association catholique de jeunesse française, décrit dans ses lettres à sa famille les tortures dont il est témoin ; Pierre-Henri SIMON publie Contre la torture en 1957…
[13] Cité nouvelle, no4, Avril 1957, cité par Raoul CRISPIN, Des protestants engagés, op.cit., p. 279-280.
[14] Publiée en février 1958 chez Minuit, La Question est saisie dés le 27 mars : 70000 exemplaires avaient déjà été vendus ! (Informations tirées de Bernard DROZ et Evelyne LEVER, Histoire de la guerre d’Algérie, Seuil, coll. « Points », Paris, 1982, p. 161)
[15] Voir Hervé HAMON et Patrick ROTMAN, Les porteurs de valise, Albin Michel, Paris, 1979 ; réed. Points-Seuil, Paris, 1982
[16] Jean Conilh, entretien avec l’auteur
[17] Paul RICOEUR, « L’insoumission », Christianisme social, no 7-9, 1960
[18] Ibid., p. 586
[19] Ibid., p. 587
[20] Daniel GALLAND, L’espérance maintenue, Le Centurion, 1979, p.85
[21] Ibid., p. 87
[22] Théodore RUYSSEN, « A propos de l’insoumission », Christianisme social, no 10-11, 1960, p. 728
[23] Ibid., p. 729
[24] Ibid., p.729
[25] Jacques Lochard, entretien avec l’auteur
[26] Françoise Hock-Mathiot, entretien avec l’auteur
[27] Etienne MATHIOT, Le Monde, 15 décembre 1957
[28] Paul RICOEUR, « Le procès d’Etienne Mathiot et de Francine Rapiné », Christianisme social, no 4-5, Avril-mai 1958, p. 227-284
[29] Françoise Hock-Mathiot, entretien avec l’auteur
[30]André PHILIP, Les cahiers de la Réconciliation, juin-juillet 1958, p.25-26
[31] Paul Ricœur, message au cimetière de Lion-sur-Mer lors des obsèques d’Etienne Mathiot, repris à l’occasion de la soirée œcuménique de recueillement et de reconnaissance autour du souvenir du pasteur Etienne Mathiot, 3 février 1994, faculté de théologie de Paris, extrait du texte dactylographié communiqué par Jacques Maury.
[32] Jacques Lochard, entretien avec l’auteur
[33]Jean-Luc Domenach, entretien avec l’auteur
[34] Texte signé par Mikel Dufrenne, Roger Ikor, Armand Lanoux, Paul André Lesort, Jean Ratinaud, archives du Fonds Paul Ricœur, IPT.
[35] Emanuel Levinas, lettre à Paul Ricœur, 10 juin 1961, archives du Fonds Paul Ricœur, IPT.
[36] Pierre Encrevé, entretien avec l’auteur
[37] Jean Baubérot, entretien avec l’auteur
[38] Ibid.
[39] Ibid.
[40] Michel Rocard, entretien avec l’auteur
[41] Ibid.
[42] Ibid.
[43] Michel Rocard, cité par Robert SCHNEIDER, Michel Rocard, Stock, Paris, 1987, p. 98
[44] Ibid.
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 01 نوفمبر 2020