
أي ثائر أنت يا محمد؟صلى الله عليك وسلم
"محمد، أقل من إله، وأكثر من نبي"لامارتين.
المؤلف: المرحوم الأستاذ البخاري حمانه
قسم الفلسفة، جامعة وهران2
***********************
"كتب هذا المقال اثر رؤية المؤلف للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام .
وقد نشرته جربدة الجمهورية،وهران، الجزائر،14 جانفي 1980."
أي ثائر أنت أيها العربي القادم من تلك الصحراء المنسية التي لا يسقي واديها زرعا ولا تمسك كثبانها مرعى، ولا ترحم سمومها ضرعا والذي يصادم في أقدام أعتى الجيوش ويطيح في إصرار باعتي العروش؟
أي قائد أنت؟ يا من حولت فجأة قبائل ممزقة لم تعرف غير الخيام مسكنا والرمال مرتعا والجمال مركبا إلى خميرة لخير أمة أخرجت للناس لم تلبث طلائعها أن انطلقت كالسهام في كل اتجاه من الأرض رافعة لواء دعوتك وعاملة أينما حلت على نشرها في سماحة لانت لها أقسى القلوب. وبقوة أذعن لها أعنى الجبابرة.
أي بطل أنت يا من اهتزت لمولدك أفئدة وعقول، وانفتحت أمام زحفك أقطار وأمطار وانضمت لمسيرتك الظافرة أمم وشعوب وتلاشت تحت ضرباتك العادلة ممالك تليدة وإمبراطوريات.
أي عبقري أنت؟ يا من أخرجت أمة من الظلم وأقمت ، في سرعة أذهلت المؤرخين والمحللين دولة من العدم، دولة التحمت تحت لوائها قوميات وجنسيات ما كانت تلتقي من قبل إلا عبر الأشلاء والدماء. وتساوى في ظل عدالتها السادة والعبيد. الأغنياء والفقراء ، البيض والسود، الأقوياء والضعفاء، دولة امتدت من الصين شرقا إلى ما وراء الأندلس غربا، دولة هلك دونها طغاة وعتاة كانوا يعتقدون أنهم الخلد نفسه؟
أي أمي أنت، يا من أرسيت دعائم حكم نموذجي لا عهد للمنطقة بل للإنسانية بمثله وفجرت أينما حلت طلائعك أنوار ثورة إسلامية عربية عارمة حررت طاقات إنسانية كانت مكبلة وفجرت عبقريات كانت مجمدة، وبلورت أهدافا كانت حتى ذلك الوقت منعدمة، ثورة يمتد أصلها الروحي إلى دين إبراهيم وموسى وعيسى ويعانق فرعها في شموخ أمالا إنسانية في الحرية والعدالة كانت حتى ذلك الوقت محرمة...
عرفت عن قرب الثائرين وأعجبت بهم ولكني لم أجد واحدا منهم في تقاك أو نقاك لذلك فاق (وبكل المقاييس الموضوعية والذاتية) إعجابي بك وقربي منك إعجابي وقربي منهم مجتمعين.
وصاحبت طويلا قادة تغنت أجيالهم بمجدهم فلم أجد قائدا أنجز، سرعة وسلما، ما أنجزت أو شيد متانة وشموخا، روحيا وماديا، ما شيدت لذلك فاقت صلتي بك صلتي بهم أجمعين وأعجبت بكل الأبطال الذين أنجبتهم الإنسانية عبر تاريخها الطويل فلم أجد بطلا واحدا تحدث مبادئه الزمن تجددا وخلدا، وفاقت ممارسته الأمومة حنانا وحنوا كما تحدث مبادؤك وممارساتك.
وشدتني، إكبارا وتقديرا، عبقريات أسهمت عن قرب في حضارة مصر الرائدة، وفي فلسفة أثينا الزاهرة وفي نهضة أوروبا الباهرة، وفي تقنيات واكتشافات الفضاء الساحرة، وابتكارات الدمار الماحقة، ولكنني لم أجد عبقرية واحدة طاولت، حضرة وحضورا إنسانية وأخلاقية، مثالية وواقعية، كما طاولت عبقريتك تطاول الزمن، ولم اعثر على مفكر واحد لم تلق به وبمبادئه وابتكاراته الأيام الجامحة في هوة النسي والنسيان.
لقد أكبرت في أولئك الثوار والقادة الثورة والقيادة، ولكنني لم اجد فيهم البطولة والعبقرية والإنسانية، وحين عثرت على البطولة والعبقرية والثورة والقيادة لم أجد الإنسانية.
من هنا فإنني وقد وجدت فيك منفردا، كل تلك الصفات مجتمعة تصميم الثائر وتقاه فطنة القائد ونقا، عظمة البطل وتواضعه، دهاء السياسي وأخلاقيه، حدس العبقري وإنسانيته، صفاء القديس وطهارته، فإنه لا يسعني ولا يسع أي إنسان موضوعي آخر إلا أن يزدادا إكباراً لك وإعجاباً بعظمتك، وذلك ما شهد ويشهد به كل يوم بل كل ساعة أعداؤك قبل أصدقائك.
لأن الثورة في مفهوم رسالتك لا يمكن أن تكون إلا متكاملة، ولأنها لا يمكن أن تكون متكاملة إلا إذا كانت روحية وأخلاقية ومادية في نفس الوقت، فإن ثورتك لم تعرف الإرهاب أو العنف الذي عرفته الثورات المختلفة ولم تتعرض لما تعرضت من نكسات وانحلال.
ولأن الإنسان في نظرك كل روحي ومادي متكامل لا يمكن أن يحصر أو ينحصر في معادلات مادية أو غريزية باهتة بل انه قبل كل شيء جسد وروح قلب وعقل وعاطفة ووعي فان مفهومك المتكامل هذا لم يجمد الإنسان في المادة ولم يغرقه في النزعات الروحية المتطرفة في نفس الوقت لذلك لم يعرف الإنسان في مفهوم الإسلام الحقيقي ذلك الضياع الروحي الذي يعرفه اليوم إنسان القرن العشرين ولذلك أيضا ظل مفهومك هذا للإنسان مفهوما متجددا باستمرار.
ولأن الحرية في نظرك جهاد والتزام فردي وجماعي متبادل وليس تسلطا فرديا أو جماعيا أو إباحية فردية فإن الحرية التي ناديت بها بل حاربت من أجلها لا يمكن أن تذوب يوما إذا ما أحسن استعمالها وفهمها في أي ديكتاتورية جماعية أو تضيع وسط أي نزعة فردية أو أنانية كما ضاعت حريات كثيرة أمام الفاشستية والنازية والفوضوية والعدمية وتلاشت أمام فلسفات العبث والضياع الأوروبية المعاصرة ولذلك بقيت الحرية في الإسلام حقا فرديا وجماعيا لا ينازع.
لأنك آمنت أن حق الحياة لكل إنسان يجب أن يقوم على التعاون والتضامن والعمل لا على احتكار أو الاستغلال أو الحقد أو البغضاء أو الدماء وبالتالي فإنه لا يمكن أن يكون حكرا على طبقة أو فرد أو عصر فإن الاشتراكية التي ناديت بها وحققتها فعلا أثبت حين طبقت بعد ذلك عملا وبالرغم من حملات الشك والتشكيك أنها أفضل واقصر الطرق لتحقيق ذلك الحق دونما استغلال أو أحقاد أو دماء .
لذلك ، تجد الإنسانية الواعية اليوم أن السلام الذي جئت وناديت به وحاربت من أجله ليس سلاما بين الأقوياء والضعفاء الجائعين والمتخمين السادة والعبيد ولكنه سلام حقيقي يستند إلى تلك الأسس الموضوعية والواقعية العادلة التي إقامته عليها وليس إلى شعارات مجردة لا تربطها بالواقع الإنساني أي صلة إنه سلام يحكمه الضمير الواعي وليس سلاما يحكمه توازن الرعب أو الهيمنة أو الاستغلال.
تلك بعض أسرار عظمتك وأبعاد رؤيتك وعمق كفاحك وعظمة انجازك التي لم تتحقق حلما أو خيالا بل تمت جهادا وتضحية دما وعرقا دفعتها أنت أيها النبي العظيم قبل غيرك تحقيقا للعدل وإقرارا لوعد الله الحق لعباده المخلصين.
إني أراك تغادر في الم مكة المعتدية المشركة مكة مسقط رأسك ومهد طفولتك ومرتع شبابك قاصدا يثرب مقر هجرتك الجديدة في رحلة مضنية تركت دونها أهلا وأصحابا ثم ها أنت تقف بعد ذلك صامدا أمام هول المحنة في احد وقساوة الاختبار في حنين تثبت قلوبا أوهنتها فداحة الهزيمة وتشد من أزر عزائم زعزعها هول الاختبار فاكبر فيك قوة الثائر والمس فيك عظمة الإنسان.
في بدر فأجدك مع طلائع قواتك المقاتلة والمنتصرة وابحث عنك في هول أحد فألقاك قائدا يستميت جريحا في صد هجمات العدو المتكررة وأناديك في ساحات المدينة فيصلني صوتك القادم من مشارفها، من الخندق الذي تحفره مع جندك بأظافرك مطمئنا ومؤكدا دفن أمال قريش فيه إلى الأبد فأكبر فيك تفاني القائد وتواضعه .
أراك، وقد أمنت في الحبشة أصحابك من أذى قريش المتصاعد، تصارع وحدك، جهالة أبي جهل، وحقد أبي سفيان ودسائس" قينقاع" وخيانات" قريظة"، فأتذكر من جديد صورتك في بدر وأحد فأجدك في كل الحالات مؤمنا واثقا، لا النصر يغير من تواضعك، ولا الهزيمة تهز من عزيمتك، فأكبر فيك تواضعك في النصر قدر إكباري لثباتك امام الهزيمة.
أراك في الحديبية تعقد وتنقذ، في إصرار ووسط غيظ وخنق أصحابك الأقربين، عهدا مع قريش اعتقدته، واعتقده كثيرون معها، انه لصالحها ولكن الأيام أثبتت بسرعة انه كان للإسلام وللمسلمين فتحا مبينا، فأكبر فيك حرصك على السلام الحقيقي ورفضك في نفس الوقت لأي شكل من أشكال الاستسلام.
أراك وأنت تدخل مكة، ظافرا ترتفع فوق جراحك وتدوس على عواطفك، وتتناسى إساءاتها التي لا توصف لك، وتعفو عنها وهي تحت قدميك للسماحة التي يجب أن يكون عليها القائد وتطبيقا لروح الإسلام الذي يحارب، شكلا ومضمونا، الأحقاد والعدوات والبغضاء فأحيي فيك سمو القائد وتسامح العافي المقتدر.
أراك في الشوارع والأسواق أبا حانيا تنصح وترشد، وتساعد، وتراقب، وتواسي أمتك، واجدك في المنزل أبا رحيما يداعب في مرح الأطفال ويحرس على سعادتهم، وزوجا كريما لا يستغل مهام الدين والدولة، المتعددة والمنوطة به، للتقصير تجاه أهله أو للتفريط في أطفاله فأكبر فيك حنان الأب ووفاء الزوج وبساطة المسؤول أراك أيها النبي الكريم وقد رفعت عاليا راية الإسلام والمسلمين وشيدت شامخة قوية أسس دولته الكبرى تطوف بالبيت المطهر مودعا وتقف، للمرة الأخيرة فوق عرفات مذكرا جموع أمتك المنصتة إليك خاشعة باكية فراقك المحتم، تذكرها بمبادئ دينها وتسائلها في صدق وتواضع ((هل بلغت الرسالة؟)) و(هل أديت الأمانة؟).
أذاك، أعود مسرعا إلى يوميات مسيرتك النضالية الظافرة أسائلها من جديد عنك، وأجول بخاطري في العالم الإسلامي العربي الذي وضعت منذ أربعة عشرة قرنا خلت نواته، فأجدك، أيها النبي الكريم، بشرا لا ككل البشر، فقد قاومت دون ملل أو ضعف كل حملات التهديد والوعيد، وتحملت من أجل رسالتك كل الأهوال والخطوب غير عابئ بشيء إلا بتحقيق وعد الله الحق وتجسيد ذاك الهدف العظيم الذي اصطفتك العناية الإلهية له.
وأجول بخاطري في عالم الإسلام، منذ الأمس إلى اليوم فأجده، بالرغم مما أصابه من خطوب ومحن بعدك، لم يتوقف أبدا عن الامتداد بعقيدتك والعمل من أجل رفاهية أمتك، وتترامى إلى مسامعي فجأة أصوات شهدائه عبر التاريخ فأراهم في كل نقطة من ديار الإسلام يسقطون وكلمتهم الأخيرة ((الله أكبر)) فيزداد إعجابي بهذه الأمة وبدينها، وتزداد ثقتي يحاضرها ومستقبلها بالرغم من كل المؤامرات والتحديات التي لا تزال تعرض لها إلى اليوم.
إذاك تتخطفني خواطري ومشاعري المشتعلة شوقا إليك وتتخطى بي قرونا ودهورا، أمصارا وديارا لتصلني عبر أربعة عشرة قرنا خلت، بتلك الجموع الخاشعة الباكية المنصتة إليك، فأجدني أردد معها (نعم أيها النبي العظيم).
الأستاذ البخاري حمانه
رحمه الله واسكنه فسيح الجنان
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 28 أكتوير 2020