
واقع الدرس الفلسفي في طور التعليم الثانوي
المؤلف : الباحث عناني نور الدين
المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة وهران2
مشروع الدكتوراه ل م د ، المنطق وفلسفة العلوم
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث : فلسفة، علوم وتنمية بالجزائر،جامعة وهران2
تأخذ الفلسفة كمادة تعليمية حيزا واسعا من الاهتمام داخل المنظومة التربوية، ولا يزال الدرس الفلسفي الى الان يشغل بال الباحثين ودارسي الفلسفة، حيث لا تكاد تمر سنة دون ان تشهد تنظيم عديد من الدراسات والملتقيات التي يتم فيها رسم طريق لكيفية انجاح الدرس الفلسفي، والتطرق لواقع تدريس مادة الفلسفة بالمؤسسات التربوية، ومحاولة الوقوف عند أهم العوائق التي تحول دون نجاح العملية التعليمية التي بسببها لا يتمكن الدرس الفلسفي من بلوغ كفاءته المستهدفة.
الدرس الفلسفي كما يجب أن يكون:
تمتاز طريقة تدريس الفلسفة مقارنة بالمواد التعليمية الأخرى بنوع من الخصوصية، ذلك أن الدرس الفلسفي يعبر عن لحظة تأمل فكري، لا يجب أن يقتصر على دراسة تاريخ الفلسفة والتعرف على أهم النظريات والمذاهب الفلسفية فقط، بل يتعداه إلى سفر عبر التاريخ وبآليات معاصرة، ويسعى المنهاج الدراسي إلى الحث في كفاءاته الختامية على " أن يتوصل المتعلم إلى ممارسة التأمل الفلسفي"، "التحكم في آليات التفكير النسقي" و"التحكم في آليات التفكير الفلسفي وخوض تجارب فعلية في طرح قضايا فلسفية"([*]). هكذا وجب على الدرس الفلسفي أن يكون، وإلا فلا فائدة ترجى منه وعليه" المنهج الدراسي يجب أن يرتكز على فلسفة تربوية معينة لأنها هي التي تحدد التوجهات العامة للمنهج"([1]).
ومما يجعل الفلسفة متميزة أيضا هو القدرة التي تمتلكها في طرح أسئلة عادة ما تستعصي علي باقي المواد طرحها، ويعرف كذلك عن التفكير الفلسفي أنه تفكير قلق، كونه يعالج أسئلة لا تقبل إجابات نهائية، أسئلة تحتاج إلي جرأة لا يطرحها سوى العقل الفلسفي الذي لا يؤمن بفكرة وجود طابوهات تحد من حرية العقل، "لأن التعلم في هذا التصور لا يعتبر كتسجيل الفرد لمجموعة من المعلومات، بل كتغيير لبنيته المعرفية"([2])، فإذا كان التعليم هو إكتساب المعرفة فإن الكفاءة المرجوة هي التركيز على تشغيل هذه المعرفة التي تسمح مع مرور السنين بإحداث تغيير معرفي عميق على التلاميذ.
هل فشلت المقاربة بالكفاءات؟
التعليم وفق المقاربة بالكفاءات هو محاولة معالجة المشاكل المطروحة، ومشاركة التلاميذ في حلها، ولا يمكن أن تنجح هذه المقاربة إلا من خلال إثارة التلاميذ بوضعهم أمام مشكلات تثير دهشتهم، إذ تعرف الفلسفة من حيث قدرتها على طرح المشكلات ومن ثم التساؤل في عملية بناء الدرس الفلسفي، فيحول المشكل إلى مادة خام وموضوع للتفكير، فلا تقتصر تعليمية الفلسفة وفق هذه المقاربة في نقل المعارف الفلسفية، بل تهدف لتحويل تلك المعارف إلى مادة للتعلم وفق مضامين وأهداف تعليمية إجرائية يسطرها المنهاج، و" لم يعد دور المعلم ممثلا في إكساب التلاميذ "المعارف" و"مهارات الأداء" بالمعنى التقليدي لهاتين العبارتين، أي المعلومة المفككة والإجراءات. المقصود اليوم هو أن يكون التلميذ قادرا على تجنيد هذه المعلومة وهذه الإجراءات في وضعيات معقدة وجديدة"([3])، فإذا كان الفكر ينشأ من الأزمات، فعليه أولا إثارة تلك الأزمات للدخول في صراع مع الآخر لتحصيل معرفة بشكل أفضل.
وإذا كان هدف المقاربة بالكفاءات هو أن يصبح التلميذ محور الدرس، فإنها تتطلب إمكانيات أولها المنهاج ذاته، إذ يجب أ أن يتأقلم محتواه والمقاربة الجديدة، لكن الملاحظ في الواقع أن المناهج التربوية بقيت كلاسيكية وتقليدية رغم كل حركات الإصلاح التي تعرضت لها، ولم تستطع فعليا التحرر من تأثير المقاربة بالأهداف القديمة، حيث أصبح البرنامج الدراسي لا يساعد التلميذ على الإنخراط في العملية بسبب غياب الحافز المعنوي، هذا التحفيز الداخلي كان من المفروض أن يجعل التلميذ يتصرف بدافع تحقيق الذات، "ويشعر بغياب التحفيز لكونه لا يرى العلاقة بين أفعاله ونتائجها، وأيا كان الفرد يرى النتائج على أنها خارجة عن نطاق إرادته، الشئ الذي يعتبر غيابا كليا لتحقيق الذات"([4]). وتزيد النتائج السلبية المحصل عليها من إطالة عمر هذا الغياب خاصة وأن التلميذ يأتي الى درس الفلسفة محملا منذ البداية بجملة من الأحكام المسبقة علي المادة يطغى عليها أحكام إيديولوجية ونفسية ورثها من نظرة المجتمع للفلسفة عموما، تزيد هذه الأحكام ثباتا بسبب تأجيل تدريسها إلى غاية الأقسام النهائية وعدم تمتعها بالقدر الكافي من الحجم الساعي الذي يتطلبه الوصول إلى الكفاءة الختامية بأريحية، ويؤدي النموذج الملقن في المدارس بالتلميذ إلى النفور من الفلسفة، مايجعل من مهمة تدريس الفلسفة غاية في الصعوبة خاصة مع الأقسام العلمية.
هل الامتحانات هي تقييم للقدرة على التفكير أم للقدرة على الحفظ؟
رأينا أن المقاربة بالكفاءات تعتمد على مشاركة المتعلم في توليد المعرفة الفلسفية، حيث يصبح الدرس الفلسفي درسا تفاعليا يعتمد على التفكير وبعد الرؤية، بعيدا عن رتابة التلقي التي تجعل من الحصص التربوية مملة يقع فيها العقل في مستنقع الركود، لهذا يرتبط تحديد كفاءة التلميذ بمدى قدرته استعمال معرفته ومهارته في حل وضعيات معقدة، "ومن الواضح أن إدراج مفهوم الكفاءة في الخطاب المدرسي يمثل رهانا معتبرا، والمدرسون، بحكم خبرتهم، يعرفون دون شك أن إيصال التلاميذ إلى حل مسائل معقدة أمر صعب وأن الكثير منهم لا يستطيعون اليوم فعل ذلك"([5]).
ولا ترتقي الامتحانات التقييمية لدرجة الكفاءة البييداغوجية المرجوة، حيث تكشف في كل مرة امتحانات آخر السنة الهوة الشاسعة بين الكفاءات المستهدفة المعلن عنها وواقع التدريس، "ولاحظنا على العموم أن التقييم العادي، سواء كان علامة تقليدية رقمية أم حرفية، أم مجرد ملاحظة بسيطة لا يحكم على عملية إكتساب المعرفة، إنما هو من خلال النجاح أو الفشل في فرض من الفروض، يحكم بمزيد من الذاتية على "مستوى" التلميذ"([6]).
ولا يمثل امتحان البكالوريا بصفته آخر امتحان لاكتشاف قدرة التفكير عند التلميذ في الكتابات الفلسفية، بل هو مجرد فرصة لاستدعاء مقالات جاهزة تم تحضيرها مسبقا، لا تمثل الإجابات فيها عن فكر التلميذ بالقدر الذي تعبر فيه عن السلطة الفكرية التي يمارسها عليه صاحب المقالات. لذا غالبا ما لا تنسجم هذه الاجابات مع شروط بناء المقال الفلسفي الذي وجد من أجله، " وفي البكالوريا ليست الإنجليزية تحديدا أو التاريخ، ولا الجغرافيا، رغم أهمية هذه المعارف، إنما هو بالأحرى القدرة على تحليل شئ ما وإنتاج آخر"([7]).
وتدفع الطريقة المباشرة في طرح أسئلة الإمتحانات، التلميذ إلى الحفظ بدل إعمال التفكير، وهو ما يزيد في إثبات عقلانية المعلم في ذهن المتعلم، وهذا ما يتعارض مع الهدف من تدريس الفلسفة.
ويلاحظ أيضا عزوف التلاميذ عن معالجة النصوص إلا للضرورة القصوى وهي الجهل التام للموضوعين الأولين، فكل التلاميذ الذين يختارون كتابة مقال يعالج مضمون النص - وان سلمنا بوجود استثناءات - إختاروه مرغمين، يدعم هذا الطرح عدد الذين يختارون معالجة النص عند العلميين الذي يفوق الأدبيين وكذلك النقط المحصل عليها في العموم والتي تكون في الغالب تحت المعدل. لا تشجع هذه المعطيات على اختيار معالجة النص من طرف التلاميذ بحجة أن النص لا يقيم جيدا، رغم أن المقاربة بالنصوص تعتبر ركنا أساسيا من أركان الدرس الفلسفي، فتعويد التلاميذ التعامل مع النصوص يمكنه أن يقضي على حشو ذهنهم بالمعلومات الجاهزة، وبإمكان النص الفلسفي تحقيق التفكير الفلسفي عبر التمرن على البناء الإستدلالي داخل المقاربة الحجاجية من خلا خطوات معالجة النص بشقيها التفسيري والتأويلي، ويتعود معه على كيفية البرهنة إنطلاقا من النص والتحليل والنقد والتركيب الذي يستدعي استحضار كل المكتسبات القبلية الفلسفية والثقافية، ويثم من خلال بناء المفارقة الربط بين أفكار متعارضة من أجل إعادة طرح الموضوع للبحث. وهكذا يمكن القضاء علي القوالب الجاهزة لأن التلميذ سيجد نفسه في وضعية مباشرة أمام خطاب فلسفي دون وساطة.
بناءا على ماسبق يمكننا القول أن كلا من المقاربة بالكفاءات والدرس الفلسفي لم يصلا لهدفهما الأساسي والمتمثل في إكساب التلميذ القدرة على التفكير النقدي.
التوصيات:
-تكثيف حلقات التواصل والتنسيق بين المفتشين والأساتذة من أجل توحيد طرق التدريس وتوحيد التقييم، والنصوص علي ان يعتمد فيها على الجانب البيداغوجي قبل الجانب الإداري.
-توحيد الوثائق البيداغوجية مثل المذكرات.
- إعاة النظر في الحجم الساعي المخصص للمادة خاصة عند العلميين واللغات فساعتين أوثلاث ساعات أسبوعيا لا تكفي التلميذ حتى يتمكن من إدراك المادة العلمية وطرق تحليل المقالات.معا، خاصة وأنه لم يسبق وأن درس الفلسفة من قبل..
- التخفيف من برامج بعض الشعب وإعادة النظر في برامج البعض الآخر فمثلا تأخير المنطق عند العلميين هو اجحاف في حق المنطق الذي من المفروض أن يكون أول ما يدرس في الفلسفة مقابل ذلك يجب مراجعة الفائدة من وجود مشكلة المذهب الوجودي والمذهب البراغماتي عند شعبة التقني وتسيير واقتصاد مقابل غياب المنطق.
- رد الإعتبار للنص الفلسفي واعتباره ركنا أساسيا من أركان الدرس الفلسفي.
- إعادة النظر في طريقة طرح اسئلة إمتحان شهادة البكالوريا بعدم الإعتماد على الأسئلة المباشرة التي تشجع على الحفظ مقابل التفكير
المراجع المعتمدة:
* المديرية العامة للتعليم، مديرية التعليم الثانوي العام والتكنولوجين التدرجات السنوية، مادةالفلسفة، السنة الثالثة ثانوي، سبتمبر2020.
1 مصطفى، هجرسي، المناهج التعليمية ومواكبة التغيرات، سلسلة من قضايا التربية، المركز الوطني للوثائق التربوية، الجزائر، ص: 12.
2 برنارد، راي، فانسان، كاريت، صابين، كهن، الكفاءات في المدرسة، ترجمة، مصطفى بن حبيلس، رعاية، إبراهيم العلبيبي، سلسلة من ترجمة المركز، المركز الوطني للوثائق التربوية، الجزائر،2015، ص24.
3المرجع نفسه، ص: 39.
4 آلان، بيوري، فابيان، فانوني، التحفيز والنجاح المركزي، سلسلة من ترجمة المركز، المركز الوطني للوثائق التربوية، الجزائر،2015، ص70.
5 برنارد، راي، فانسان، كاريت، صابين، كهن، الكفاءات في المدرسة، مرجع سابق ص: 40.
6 بأندريه، غانيو، طريقة أخرى لتقييم التلاميذ، سلسلة من ترجمة المركز، المركز الوطني للوثائق التربوية، الجزائر،2011، ص41.
7 المرجع نفسه، ص:56.
الباحث: عناني نورالدين
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 26 أكتوير 2020