
كورونا والفلسفة؛ وافد الشر من منظور لا علمي
المؤلف : الباحث محمودي خليفة
المؤسسة: طالب دكتوراه، قسم الفلسفة، جامعة وهران2
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث : الفلسفة وتاريخها، جامعة وهران2
طرح مساءلة بين فيروس كورونا (coronavirus)، والفلسفة قد يبدو للوهلة الأولى مجازفة لا معنى لها، أو يبدو سؤالًا ساذجًا، إذ ليس معقولًا أن تبحث الفلسفة في علم الفيروسات، لكن السذاجة قد تزول إذا تأملنا العنوان وافد الشر من منظور لا علمي، فنحن في هذه الورقة البحثية نبحث عن تَمَثُّلَات هذا الوافد الجديد للعالم، وليس البحث في كنهه كفيروس لأنه من اختصاص المخابر (laboratoire)، فهل استطاعت كورونا تغيير خارطة التفكير الفلسفي؟ وهل تعتبر وافدًا جديدًا للشر، أو أنها فرصة كشفت وهم التفكير الفلسفي، وزيف العالم المعاصر؟.
1/ كورونا والسير نحو الهاوية
فاجعة كورونا التي مست العالم وأوصدت كل شيء، أعادت بنا الذاكرة لما طرحه إدغار موران هل نسير إلى الهاوية؟ عندما قال: <<وهذا الكتاب يسعى إلى وصف سيرورة العولمة التي تعتبر أسوء شيء، إذ باتت تحط من شأن التسابق "صوب الهاوية" (موران: 2012، 05). إننا نجيب موران: لم نعد نقف عند سيرورة العولمة فقط، وإنما أصبحنا نقف على مشارف الهاوية، مع الحرب البيولوجية الجديدة، المتمثلة في فيروس كورونا حتى وإن لم يكن مصنع مخبريًا أصبح ورقة ضغط من طرف الدول العظمى، في مجال الأدوية (ولعل شركات الأدوية أكثر دموية وانتهازية من شركات البترولية المتعددة الجنسيات) والاقتصاد والمال وبيع القرار السياسي، إنّ العالم اليوم يسير بخطى ثابتة نحو الهاوية.
إنّ فيروس كورونا غَيَّر نظرتنا للعالم، وغير معالمه، وضرب أخلاقه الزائفة، إن الحضارة الغربية في أول اختبار حقيق لها، انهارت قيمها التي نادت بها،حيث أصبحت تعتني بمواطنيها الحقيقين فقط (مواطن الدولة)، وترفض الغير، إن صرح سؤال الغيرية الذي نادى به الفكر الغربي انهار تمامًا، حيث لم يصبح الغير هو الأنا، وأصبح الآخر هو الهامش الذي لا يساوي الذات، لقد انهارت معه قيم ليفيناس ومسؤولية جوناس، إنه فكر وحبر على الورق لقد بينت كورونا زيف قيم الغرب والعالم، لقد أكدت زيف القيم الغربية، التي نادى بها فلاسفة الغرب.
2/ كورونا وانهيار القيم. (أو هي انتصار لهيدغر وسارتر ونيتشه. على حساب ليفيناس وهابرماس )
إن كورونا لم تتوقف عند هذا الحد فقط، بل قد تُغيِّر التفكير الفلسفي المعاصر برمته، هذا الأخير دعا إلى التواصل والعيش المشترك والغيرية، إلا أن كورونا دعت إلى العزلة، فهل يجعل هذا الفيروس الفلسفة تعيد خطواتها في التفكير في العزلة والتواصل؟ هل انتصر هيدغر على ليفيناس وجوناس وبرديائف وهابرماس ..إلخ؟ وذلك عندما أحب هيدغر العزلة/ الوحدة (هيدغر يحب تسميتها بالوحدة بدل العزلة) في الأرياف بدل صخب المدينة الزائف عندما قال: <<غالبًا ما يندهش أهل المدينة من انعزالي الطويل الرتيب في الجبال مع الفلاحين إلا أن هذا ليس انعزالًا، وإنما هي الوحدة. ففي المدن الكبيرة يستطيع المرء بسهولة أن يكون منعزلًا أكثر من أي مكان آخر، لكنه لا يستطيع أبدًا أن يكون فيها وحيدًا. ذلك أن للوحدة القدرة الأصلية على عدم عزلنا، بل إنها على العكس من ذلك ترمي وجودنا بأكمله في الحوار الواسع مع جوهر الأشياء كلها>> (بنعبد العالي: 2011، 10). إن فيروس كورنا يُصَّدِق هيدغر، حيث أصبحت الوحدة والأرياف المأمن من هذا الشر الوافد، وكأن الفيروس ينتصر لفلسفة هيدغر على حساب الفلسفات الأخرى.
فيروس كورنا سيغيّر نظرة الفلسفة والفلاسفة لبعض القضايا، حيث انتقد الكثير وسائل التواصل الاجتماعي، وقال أنها أحلت التواصل الزائف بدل التواصل الحقيقي بين الذوات. لأن التواصل وجهًا للوجه يحمل كل صفات الإنسانية (طرح ليفيناس: الذي يرى أن إنسانية الإنسان تكمن في الوجه. Face à face). بدل التواصل وراء الشاشات. لكن مع كورونا تغير هذا الطرح وأصبح التواصل وجهًا لوجه يحمل الموت، أو الفناء. فأصبح التواصل وراء الشاشات (الاعتماد على التقنية) الحل الأمثل لضمان الحفاظ على حياة الإنسان. إن كورونا غيرت ما كان سائد في التفكير الفلسفي.
لم تتوقف كورونا عند هذا الحد فقط، بل هدمت القيم كما فعل نيتشه من قبل، فالغيرية كخطاب فلسفي إتيقي، هو الآخر لم يسلم من معول الهدم. حيث اتّجه الإنسان إلى الحفاظ على ذاته، ورسم سياج لها، يخرج الغير من دائرته. إذ أن الآخر أصبح هو الجحيم بتعبير سارتر. وكأن كورونا هنا تنتصر أيضًا لساتر على حساب ليفيناس، لأن الآخر المصاب أو المشكوك فيه، أو يحتمل أنه يحمل المرض أصبح الوت/ الجحيم، الذي يجب على الذات أن تتجنبه وتتجاوزه. وكأن صرح الأخلاق هدمته كورونا بمطرقة الهدم كما فعل نيتشه، إن كورنا تدعو إلى إعادة بناء صرح الأخلاق من جديد.
قد يبدو أن كورونا وافد الشر بالنسبة للقيم الإنسانية، وفي وقت ذاته بينت زيف الإنسان المعاصر في تبنيه للقيم، لقد ضربت كورونا مفهوم الفضاء العمومي الذي نادى به هابرماس، ومن قبله كانط. لم يعد الالتقاء مع الغير لتبادل الآراء والمحاججة، شيء مقبول عقلًا. إذ حفظ النفس أولى. وأحلت مكان الفضاء العمومي فضاء البيت/ المنزل. فهل يجب علينا أن ننتقل من الفضاء العام إلى الفضاء الخاص (باعتبار أن المنزل فضاء خاص)؟ فهل يجب أن نفكر في آلية جديدة بعد فشل آليات التفكير القديمة؟ هل بات علينا أن نؤمن بحداثة جديدة. علمًا أن الحداثة هي تجاوز القديم نحو الجديد؟ إنها أسئلة لن تجيب عنها إلا الأيام القادمة، فحتى الحديث على ما بعد كورونا في وقتنا، زيف لغوي. إذ العالم لم يفهم حتى كورونا فكيف نتكلم على "الما بعد".
الباحث محمودي خليفة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 27 سبتمبر 2020