النسوية الإسلامية وسؤال الخصوصية

 

 

 

المؤلف : أ.د.الشريف طوطاو 

المؤسسة:  جامعة خنشلة

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

 

 

 

 

مقدمة

 يعد الاتجاه النسوي واحدا من بين الاتجاهات التي أضحت تشغل حيزا هاما في جغرافية الفكر العربي والإسلامي المعاصر، وبالرغم مما واجهه هذا الاتجاه من صعوبات وعوائق إذ لا يزال يصارع من أجل انتزاع الاعتراف بمشروعيته، إلا أنه مع ذلك استطاع أن يشق طريقه في السنوات الأخيرة وأن يستقطب العديد من الأتباع من كلا الجنسين، وأن يحقق امتدادا واسعا في الساحة الفكرية والسياسية العربية والإسلامية، بل صار له امتداد في مختلف قارات العالم وخصوصا فيما يتعلق بما اصطلح عليه بـ"النسوية الإسلامية".

      ومع ذلك، فإن هذا الاتجاه لا يزال محل تجاذبات وجدالات حادة بين مؤيدين ومعارضين، ولعل من أهم القضايا التي تمحور حولها هذا السجال مسألة الخصوصية، ففي الوقت الذي تؤكد فيه النسويات المسلمات على أصالة حركتهن وتميزها واستقلاليتها عن الحركات النسوية الأخرى الغربية منها والعربية على السواء، بل أكثر من ذلك معارضتها لهذه الحركات أحيانا، فإن خصوم هذه الحركة يقفون لها بالمرصاد رافضين دعوى الخصوصية التي تتمسك بها وتتشدق بها. وهذا يقودنا إلى التساؤلات التالية:

ـ ما مفهوم النسوية الإسلامية؟ وما هي أهم أطروحاتها ومقولاتها؟ وما هي أهم الحجج التي استند عليها دعاة الخصوصية؟ ثم ما هي أهم المبررات التي اعتمد عليها خصوم هذه الحركة في دحض دعوى الخصوصية؟

أولا : مفهوم النسوية الإسلامية

      النسوية الإسلامية مصطلح مركب من حدين اثنين هما النسوية والإسلام، ومن خلال هذه التركيبة (التوليفة) اللغوية يبدو وكأن هذه الحركة تمثل أحد فروع الحركة النسوية أو أحد أنواعها وتياراتها المختلفة، ومن ثمة، فإن المقاربة المفهومية لهذا المصطلح تقتضي منا أن نقف أولا عند مفهوم النسوية، لنتطرق بعدها إلى مفهوم النسوية الإسلامية لنتبين إلى أي مدى يصح اعتبارها كفرع أو كتيار من تيارات الحركة النسوية.

1ـ مفهوم النسوية

     من الصعب جدا الوقوف على تعريف جامع ومانع للنسوية، فهو مفهوم فضفاض ومتحرك، وذلك راجع، في اعتقادنا، إلى تعدد تيارات النسوية واتجاهاتها، فكما أن هناك نسوية ماركسية، هناك نسوية ليبرالية، ونسوية اشتراكية وأخرى راديكالية، وكما أن هناك نسوية تقدمية هناك نسوية رجعية، وهناك نسوية يمينية وأخرى يسارية[1]، إلى غير ذلك من الاتجاهات[2]. كما أن النسوية عرفت تطورا كبيرا، بحيث يتحدث المهتمون بهذه الحركة عن ثلاث موجات للحركة النسوية[3]، ومما لا شك فيه أن لكل اتجاه من هذه الاتجاهات، ولكل موجة من موجاتها مفهومها الخاص للنسوية يرتبط بمقولاتها وأطروحاتها ومفاهيمها، فمفهوم النسوية في الموجة الأولى لا ينطبق على مفهومها في الموجة الجديدة (الثانية أو الثالثة)، إذ الموجة الأولى تنادي بالمساواة بين المرأة والرجل، فيما تنادي الموجة الجديدة بالاختلاف بينهما، ومفهوم النسوية الماركسية يختلف عن مفهوم النسوية الليبرالية، وهكذا..، وبالنظر إلى هذه الصعوبة التي استشعرها أغلب من خاض في هذا الموضوع وكتب فيه، سوف نحاول استقصاء بعضا من هذه التعاريف، كما سنتطرق إلى أهم موجات النسوية التي تعكس مراحل تطورها، لنستخلص أهم سماتها وخصائصها ومقولاتها، عسى أن نستطيع مقاربة هذا المفهوم. وعليه، فما هي أبرز هذه التعاريف يا ترى؟ وما هي أهم التحولات التي عرفها المصطلح عبر صيرورته التاريخية؟

     يذهب البعض إلى أن مصطلح النسوية féminisme   قد طرح لأول مرة في عام 1860[4]، ثم طرح من جديد في الثلاثينيات من القرن العشرين بقوة في أميركا، بينما طرح في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وازدهر في الستينات والسبعينات في فرنسا[5]. وهذا يعني أن المصطلح يعود إلى عصر الأنوار (القرن التاسع عشر)، العصر الذي ازدهرت فيه النزعة الإنسانية المطالبة بحقوق الإنسان، وقد كانت المرأة حتى ذلك الحين مهضومة الحقوق، قبل أن يعاود الظهور من جديد وبصيغ ومفاهيم جديدة مع بداية القرن العشرين وفي النصف الأخير منه، وهي الفترة التي شهدت المراجعة النقدية للحداثة الغربية في إطار ما بعد الحداثة، ومن هنا سنرى كيف أخذ المصطلح مفاهيم متعددة تبعا للتطور الذي طرأ عليه، فقد عرف معجم Hachette النسوية بأنها "منظومة فكرية أو مسلكية مدافعة عن مصالح النساء، وداعية إلى توسيع حقوقهن"، أما معجم "ويبستر" فيعرفها على أنها "النظرية التي تنادي بمساواة الجنسين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتسعى كحركة سياسية إلى تحقيق حقوق المرأة واهتماماتها وإلى إزالة التمييز الجنسي الذي تعاني منه المرأة"، وأما "سارة غامبل" (Sara Gambel) فتعرفها في كتابها "النسوية وما بعد النسوية"(feminism and postfeminism)  بأنها "حركة سعت إلى تغيير المواقف من المرأة كامرأة قبل تغيير الظروف القائمة وما تتعرض إليه النساء من إجحاف كمواطنات على المستويات القانونية والحقوقية في العمل والعلم والتشارك في السلطة السياسية والمدنية" ونعرفها الكندية "لويز تزبان" بأنها "انتزاع وعي فردي في البداية ومن ثم وعي جمعي تتبعه ثورة ضد موازين القوى الجنسية والتهميش الكامل للنساء في لحظات تاريخية معينة"[6]، وأما ميرفت حاتم ـ وهي إحدى النسويات المسلمات ـ فتعرفها بقولها: "أعرف النسوية كمجموعة من الأدوات التحليلية والنقدية التي يمكن أن تستعمل لتعميق فهم النساء، ولتحديد علاقاتهن بمجموعات أخرى من النساء داخل الحدود الإقليمية والدولية وخارجها. بهذه الطريقة، يقوم المشروع النسوي بتحسين فاعليته، والإضافة إلى إستراتيجيته المستعملة للتغيير"[7].

   وما يستشف من هذه التعاريف، هو أن هناك إجماع بين أصحابها على أن النسوية في أصلها عبارة عن حركة سياسية ذات مطالب وأهداف اجتماعية، فهي تسعى إلى الدفاع عن حقوق المرأة السياسية والاجتماعية كالحق في الانتخاب والمشاركة في الحياة السياسية، والحق في العمل والتعليم وغيرها من الحقوق التي كانت حكرا على الرجال دون النساء، فهي (النسوية) إذن، محاولة لرد الاعتبار للمرأة بعد ذلك التمييز والتهميش الذي عانت منه طوال عصور خلت، جراء تلك النظرة الدونية إليها التي كرستها الثقافات القديمة، على نحو ما يتجلى في كتابات بعض الفلاسفة اليونان على غرار سقراط وأفلاطون وأرسطو[8]، وفي بعض الديانات كالمسيحية واليهودية والبوذية، وغير ذلك من الكتابات والمواقف التي تكرس الهيمنة الذكورية، مثل كتابات أوغسطين، توما الإكويني، ديكارت، روسو، كانط، وغيرهم[9]. فالفكر النسوي بشكل عام، "عبارة عن أنساق نظرية من المفاهيم والقضايا والتحليلات تصف وتفسر أوضاع النساء وخبراتهن، وسبل تحسينها وتفعيلها، وكيفية الاستفادة المثلى منها"[10].

   إن الحركة النسوية تنطلق من مسلمة أساسية وهي أن النظام الاجتماعي الذي كان سائدا طوال العصور السابقة من تاريخ الحضارة، هو نظام ذكوري يكرس الهيمنة الذكورية، ويكرس النظرة الدونية إلى المرأة، حتى أن كلمة إنسان أضحت تشير إلى الرجل دون المرأة، فكأن المرأة جنس آخر، فهي كما صورها الفكر الديني اليهودي والمسيحي مصدر الشر والخطيئة والشقاء، أو هي على حد وصف "ترتوليان" باب الشيطان*، بل  إن الأمر قد وصل ببعض رجال الدين المسيحي إلى حد التساؤل: هل المرأة هل المرأة موجود بشري أم أنها لا ترقى إلى هذه المنزلة؟ ومن هنا، جاءت الحركة النسوية "لترفض مركزية العقل الذكوري، أي التفسير الذكوري الواحد والوحيد المطروح للحضارة"[11]، وهو ما عبرت عنه يمنى طريف الخولي (وهي إحدى رائدات النسوية العربية) في تعريفها للنسوية، إذ تقول: "هي كل جهد نظري أو عملي يهدف إلى مراجعة واستجواب أو نقد أو تعديل النظام السائد في البنيات الاجتماعية، الذي يجعل الرجل هو المركز، هو الإنسان، والمرأة جنسا ثانيا، أو آخر، في منزلة أدنى، فتفرض عليها حدودا وقيودا، وتمنع عنها إمكانات للنماء والعطاء، فقط لأنها امرأة، وفي الناحية الأخرى، تبخس خبرات وسمات فقط لأنها أنثوية، لتبدو الحضارة في شتى مناحيها إنجازا ذكوريا خالصا، يؤكد ويوطد سلطة الرجل وتبعية أو هامشية المرأة"[12].

    ومن خلال هذا التعريف، يتضح لنا بأن النسوية إنما تسعى إلى تفكيك النظام الذكوري المهيمن على الحضارة الإنسانية منذ العصور القديمة وصولا إلى مرحلة الحداثة الغربية، وتفكيك البنى الاجتماعية التي أفضت إلى هيمنة الرجل على المرأة، حيث أن المرأة كانت دوما مهمشة ومهضومة الحقوق، فالسيادة دوما للرجل، فهو المركز والمهيمن في مختلف ميادين الحياة، في البيت وخارجه، وهكذا يغدو الحديث عن الإنسان وقيمته في هذا النظام الذكوري هو الرجل وحده دون المرأة، كما هو الحال في الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، الذي هو في الواقع، ميثاق حقوق الرجل وحده، وأما المرأة فلا تذكر إلا على هامش الرجل، وفي مواضع النقص والقصور والسوء الذي يصيب الإنسان والمجتمع والحضارة، وهو ما تلخصه عبارة القديس بولس: "لم يخلق الرجل لأجل المرأة ولكن المرأة خلقت لأجل الرجل"، ومن هنا سعت النسوية إلى المراجعة النقدية للمسلمات التي يقوم عليها هذا النظام الذكوري.

     إن الإحاطة بمفهوم النسوية لا يمكن في الواقع أن يكتمل من دون الإشارة إلى ما تميز به هذا المصطلح من تحول وصيرورة تبعا للتطور الذي عرفته الحركة النسوية، فقد عرفت هذه الحركة تطورا كبيرا عبر العصور، وذلك بانتقالها من حركة سياسية تنادي بالمساواة بين المرأة والرجل في الحقوق السياسية والاجتماعية (الموجة الأولى للنسوية)، إلى فلسفة لها رؤيتها الخاصة للوجود وللمعرفة والقيم، للإنسان والمجتمع والتاريخ والحضارة (النسوية الجديدة)، وفي ضوء هذا التطور، فإن النسوية الجديدة "ترفض المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في كافة المجالات، وتدعو إلى التمسك بنقاط الاختلاف بين الجنسين، وتؤكد على الهوية الجنسية الأنثوية في مقابل الهوية الذكورية، فيما صار يعرف باسم خطاب الاختلاف الجنسي"[13]، أي، إثبات وجود هوية أنثوية، بمعنى التركيز على خصوصية خبرة المرأة وقيمتها وسيكولوجيتها، بحيث توجد هناك فروقا لا سبيل إلى تجاهلها بين الجنسين أو النوعين، وربما كانت فروقا أساسية، ليس هذا فحسب، بل إنه يوجد أيضا لكل جنس منهما توجهات أخلاقية مميزة عن الآخر[14]. فالاختلاف بين الجنسين لا ينقص من قدر المرأة (الأنثى) بقدر ما يعني الاعتراف بهويتها وقيمتها، بالنظر إلى أهمية وقيمة ما تحمله من صفات وقيم أنثوية تمثل مكسبا لها يعطيها الحق في الندية، والقدرة على العطاء والنماء والتفتح، ومن ثمة، في إثراء الحضارة الإنسانية وإنقاذها من الأزمات والاختلالات التي اعترتها بسبب هيمنة العقل الذكوري. فالنسوية، إذن، تمثل في نظر دعاتها وأنصارها مساهمة في إعادة بناء المجتمع والحضارة على أساس متوازن، وهكذا ظهر في إطار المشروع الحضاري للفلسفة النسوية ما يسمى بـالإبستمولوجيا النسوية*، والأخلاق النسوية، وفلسفة السياسة النسوية، والميتافيزيقا النسوية، واللاهوت النسوي، وفلسفة البيئة النسوية...إلخ. ومن هنا، قد لا نغالي إذا قلنا بأن النسوية اليوم تمثل مشروعا حضاريا بديلا، أو مشروع مجتمع جديد، على الأقل في منظور دعاتها وأنصارها[15]، باعتبارها تفتح كشف حساب مع الحضارة الإنسانية التي امتدت لأكثر من ستة آلاف سنة، بوصفها إنجازا للعقل الذكوري وحده وتهميشا وإقصاء للقيم الأنثوية، أو لنقل العقل الأنثوي[16]**.

    إن هذا التطور الذي ميز الحركة النسوية له في الواقع أهمية بالغة، إذ لم تعد النسوية بموجبه تعبيرا عن موقف أنثوي (اتجاه خاص بالنساء وحدهن) بقدر ما صارت فلسفة إنسانية (تتسع للنساء والرجال على حد سواء)، ذلك أن النسوية كفلسفة لم تعد ترتبط بالجنوسة، بل هي تشير إلى صفات «كامنة» في أعماق الموجود البشري عموماً رجالاً ونساء على حد سواء، وتعرف بصفتها جهداً يهدف إلى تسوية النظام السائد في البنيات الاجتماعية، فهي لا توضع إلا في سياق نقد الحضارة، وهذا يدلل على علاقتها بفلسفة ما بعد الحداثة.

     إن النسوية كمنظور تهدف إلى إعادة الاعتبار لجملة من المبادئ التي تم إقصاؤها ونبذها ومنحها صفة "الدونية" أو "تهميشها" من قبل النسق الذكوري المهيمن، إنها تحفر وتنقب في أصول الفكر الإقصائي وتفضحه، وهي تؤكد على ضرورة الاختلاف، والتعدد، والاحتفاء بالتعدد والاختلاف، وهذا الإقصاء التعسفي للآخر المختلف سواء من حيث اللون أو الجنس أو العرق أو .... هو ما أدى إلى "خلل واعتوار" أصاب الحضارة وأمرض الإنسان، والهدف الذي تضعه النسوية كفلسفة لنفسها هو أن تعيد التوازن للعالم[17].

    ومن خلال عرضنا لبعض التعاريف والتصورات المتعلقة بالنسوية، نخلص إلى جملة من الاستنتاجات التي من شأنها أن تقدم بعض الإضاءات حول هذا المصطلح، هي كالتالي:

ـ أن النسوية هي فلسفة فعل، بحيث أنها لا تروم وضع فلسفة نظرية تأملية حول المرأة (الأنثى)، بقدر ما تروم تغيير النظام الاجتماعي السائد، بوصفه نظاما ذكوريا يكرس المركزية والهيمنة الذكورية، ويهمش المرأة، وهذا ما يجعل منها فلسفة تحرر ونضال ومقاومة. 

ـ أن النسوية فلسفة نقدية تتوجه إلى نقد وتفكيك الفكر الغربي الحداثي عبر منظوماته ومنظوراته المختلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعرفية والثقافية، التي ينتظمها جميعا مفهوم العقلانية الذي يحمل مدلولا ذكوريا خالصا (باعتبار أن العقل يمثل رمزا ذكوريا، بخلاف الغريزة أو العاطفة فهما رمزان للتفكير الأنثوي الذاتي وغير العقلاني)، وهذا النقد يتجلى من خلال فروع الفلسفة النسوية المختلفة، كالابستمولوجيا النسوية، والنسوية البيئية، وفلسفة السياسية النسوية، وفلسفة الأخلاق النسوية، واللاهوت النسوي، وغيرها*.

      ومن هنا ينظر الكثيرون إلى هذه الفلسفة كواحدة من تيارات ما بعد الحداثة[18]، باعتبار أن ما بعد الحداثة هي ذلك الفكر النقدي الذي يضع مشروع الحداثة كله على محك النقد والمراجعة عبر منطلقاته وإنجازاته ومطباته التي قادت الغرب إلى الأزمة الراهنة وعلى رأسها مقولة العقل والعقلانية. ومن هنا نجد الفلسفة النسوية حبلى بالمفاهيم الرائجة في فلسفة ما بعد الحداثة مثل النقد، التفكيك، أزمة العقل والعقلانية، مشكلة البيئة، الحق في الاختلاف، قبول الآخر، المهمش، المختلف، المسكوت عنه، السلطة، القمع، اللاشعور، الجنسانية...إلخ.

ـ النسوية فلسفة إنسانية، إذ ترفع من شأن الإنسان كيفما كان جنسه، ذكرا أم أنثى، وتدافع عن القيم الإنسانية، قيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة والتسامح،. ومن هنا رفضها لما تتعرض له المرأة من تهميش وإقصاء وظلم وتمييز واحتقار... وبذلك نجد أن هذه الفلسفة مثلما ضمت نخبة من النساء الفلاسفة فقد كان لها أنصار من الرجال على غرار روجيه غارودي في كتابه "من أجل ارتقاء المرأة"[19] وآلان تورين  في كتابه "براديغما جديدة لفهم عالم اليوم"[20] وغيرهما من الفلاسفة.

2 ـ تعريف النسوية الإسلامية

     ليس من السهل تقديم تعريف جامع مانع لمصطلح النسوية الإسلامية بسبب غياب تعريف دقيق وواضح ومتفق حوله، والحقيقة أن هذه الصعوبة لا تخص هذا المصطلح وحده، بل هي تتعلق بمصطلح النسوية عموما كما بينا سابقا، ولمقاربة هذا المصطلح سوف نقف عند بعض التعاريف على سبيل المثال لا الحصر، ونعتقد بأن الإحاطة بهذا المفهوم لا يتأتى إلا في ضوء عرضنا لأهم مقولاتها وأطروحاتها وهو ما سنقوم به في ثنايا هذا البحث.

    تعرف"النسوية الإسلامية" بأنها "حركة عابرة للحدود، توثق الصلة بين جميع المسلمات الساعيات إلى إعادة تعريف هويتهن على نحو يعتبرنه تطويعا أكثر أصالة للحداثة لمتطلبات ديانتهن وثقافتهن الإسلامية، وهن متمسكات بحقوقهن رافضات التضحية بها لفائدة الأصولية المتشددة"[21]. وبهذا المعنى، فإن النسوية الإسلامية تلتقي مع الحركة النسوية (العلمانية) من حيث هي حركة سياسية واجتماعية تناضل من أجل حصول المرأة على حقوقها، ومن أجل تغيير البنى الاجتماعية والثقافية التي أدت إلى الهيمنة الذكورية التي أفضت بدورها إلى تهميش المرأة وضياع حقوقها، كالحق في التعليم والحق في العمل، والحق في اختيار الشريك، والحق في الممارسة السياسية (حق الانتخاب والترشح للمناصب السياسية)، إلى غير ذلك من الحقوق التي ظلت دوما حكرا على الرجال دون النساء. فهي، إذن، تعيد إنتاج الخطاب النسوي نفسه بمطالبه وأطروحاته ومقولاته وأهدافه.

      إلا أن ما يميز هذه الحركة عن غيرها من الحركات النسوية الأخرى، الغربية منها والعربية على السواء، هو انتسابها إلى الإسلام واتخاذه مرجعية لخطابها ونضالها، وهو ما يجعل منها حركة متفردة داخل الخطاب النسوي، بل أكثر من ذلك، فهي تطرح نفسها أحيانا كبديل للحركات النسوية الأخرى التي تصفها بالعلمانية.

     ويذهب البعض إلى أن مصطلح النسوية الإسلامية هو من المصطلحات الوافدة إلى الثقافة الإسلامية من الغرب والذي يعبر عن ارتحال المفاهيم وانتقالها من بيئة إلى أخرى، وهو بنظر البعض الآخر مظهر من مظاهر الغزو الفكري الذي يتعرض له المسلمون في عصرنا هذا. بينما ينظر البعض إلى هذه الحركة كتيار إصلاحي تنويري داخل الفكر الإسلامي، ويقرن البعض الآخر بين هذه الحركة وحركة الإسلام السياسي الذي تمثله بعض الحركات الإسلامية المعاصرة.

     ومن أبرز الأسماء المنضوية تحت حركة النسوية الإسلامية مجموعة من الإيرانيات في الداخل اللواتي أسهمن في إصدار مجلة "زنان" في عام 1992 كـ "شهلا شركت"، و"زيبا مير حسيني"، و"أفسانه نجم أبادي"، و"وال مقدم"، وإيرانيات الشتات، كـ "نيره توحيدي"، ونجد أيضا: أمينة ودود محسن، وليلى أحمد، وعزيزة الهبري (أمريكا)، وأسماء بارلس، وعريفة مزهر (باكستان)، ويسيم أرات، وفريدة أكر، ونليفور غول (تركيا)، وفاطمة المرنيسي، وأسماء المرابط، ورشيدة آيت حميش (المغرب)، وأماني صالح، وهند مصطفى، وأميمة أبو بكر (مصر)، و"أخوات في الإسلام"(ماليزيا)، فضلا عن عدد من الرجال المناصرين لهذه الحركة.

    ومن خلال هذه الأسماء يتبين لنا مدى اتساع المجال الجغرافي لهذه الحركة لتشمل أمريكا الشمالية، وبلدانا آسيوية وأخرى افريقية، وأخرى عربية، وأخرى أوروبية، وانضمت إلى النسوية الإسلامية أيضا نساء عشن تجربة الاستعمار والحركات النضالية القومية، وأخريات من لم يعشن ذلك، فضلا عن المحجبات وغير المحجبات، وكذلك مسلمات في الداخل وأخريات في الشتات، ومسلمات عربيات وأخريات غير عربيات. وهذا التنوع تعتبره رائدات هذه الحركة ميزة، ومكسبا كبيرا لأن فيه تجاوزا للحاجز النفسي الذي يشكل عقبة بين مختلف الناشطات في مجال قضايا المرأة، إذ كثيرا ما تجد المنتمية إلى النسوية العلمانية عسرا في التعامل مع الناشطة الإسلامية، والعكس صحيح. وبالإضافة إلى ذلك، ترى رائدات هذه الحركة أن النسوية الإسلامية بحكم نشأتها في الغرب والشرق قد نجحت في تجاوز ثنائية "الشرق/ الغرب"[22].

    ويمكننا أن نفسر هذا الانتشار والامتداد الجغرافي لهذه الحركة والذي شمل، كما قلنا، معظم قارات العالم، استنادا إلى كونية المرجعية التي يستند إليها خطاب النسوية الإسلامية ونعني بذلك الدين الإسلامي، فالدين الإسلامي قد جاء للناس كافة، والخطاب القرآني موجه للإنسان أينما كان هذا الإنسان، وكيفما كان لونه أو لغته أو جنسيته أو جنسه، وكل مسلم يعتنق الإسلام ويقرأ كتابه يشعر أنه المعني بالخطاب القرآني، وهذا هو سر الأخوة الإسلامية، وسر التعاطف والتضامن بين المسلمين في مختلف أصقاع العالم. غير أن هذا لا يعني أن الحركة النسوية الإسلامية تملك من التجانس والانسجام ما يجعل خطابها واحدا. كلا، إن النسوية الإسلامية هي أقرب ما تكون في واقع الأمر إلى نسويات إسلامية منها إلى نسوية واحدة، بحيث تتقاطع وتلتقي مع بعضها بقدر ما تختلف وتتمايز، وهو ما يمكن أن نعتبره أحد مظاهر الخصوصية في هذه الحركة، فالنسوية الإسلامية في إيران تختلف عن النسوية الإسلامية في تركيا وهذه الأخيرة تختلف عن النسوية الإسلامية العربية، والنسوية الإسلامية في الداخل أي في البلدان الإسلامية تختلف عن نسوية الشتات، أي، في البلدان التي يمثل فيها المسلمون أقلية مثل كندا، والولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الاختلاف هو الذي شكل عائقا في سبيل صياغة تعريف واحد ودقيق للنسوية الإسلامية، إذ لا يوجد خطاب واحد موحد لها، كما أنها لا تتمتع بنفس الخصائص وبنفس المقولات والأطروحات، وقد انعكس ذلك على مستوى المصطلح نفسه، بحيث تفضل البعض مصطلح نسوية إسلامية، فيما تفضل أخريات مصطلح إسلام نسوي (تأسيا باللاهوت النسوي)، وتستخدم أخريات مصطلح أنثوية إسلامية، فيما تفضل أخريات مصطلح الحركة النسائية الإسلامية.

    وإذا كان البعض قد اتخذ من هذا الاختلاف والتباين حجة للطعن في مشروعية المصطلح، ومن ثمة، الطعن في خطاب الحركة إجمالا، فإن هذا الطعن نراه غير مبرر، فاختلاف الخطاب النسوي الإسلامي يدخل في خانة الاختلاف الذي يميز الفكر الإسلامي والذي يرجع كما قلنا إلى اختلاف قراءات وتأويل النص القرآني، والإسلام يمنح أتباعه إمكانية هذا الاختلاف والتعدد في قراءاته في حدود قواعد الاختلاف وضوابط التأويل والتفسير، من خلال الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد وإعمال العقل ومراعاة عاملي الزمان والمكان (أسباب التنزيل) في فهم الإسلام وتطبيق أحكامه، وإلا كيف نفسر اجتهاد الصحابة والخلفاء في تطبيق بعض النصوص الشرعية التي يعتبرها العلماء من القطعيات التي لا اجتهاد فيها، كامتناع عمر بن الخطاب عن تطبيق الحد على السارق، والأمثلة كثيرة. ضمن هذا الإطار ينبغي أن نفهم تباين الخطاب النسوي داخل الحركة النسوية الإسلامية وهو تباين مبرر لا يمس بصدقيته نظرا لاختلاف الظروف والأحوال، فأوضاع المرأة المسلمة التي تعيش في كندا تختلف عن أوضاع أختها التي تعيش في البلاد العربية، وهكذا. إلا أن هذا الاختلاف لا يخرج هذه الخطابات من دائرة الإسلام طالما أن هذه النسويات جميعا تتخذ من الإسلام مرجعية لها، وتصب جميعها في مصلحة المرأة المسلمة أينما كانت ـ أو هذا ما ترومه وتصبو إليه.

    وفي نظر البعض، فإن النسوية الإسلامية تصنف في خانة الفكر الرافض للحداثة، ولكنه يستثمر فيها بحيث يعمل على تطويع مقولاتها مع الإسلام على غرار الفكر أو الخطاب الذي يرفع شعار "الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان" و"الديمقراطية الإسلامية" و"الاشتراكية الإسلامية"، وهم يعتبرون هذا المصطلح من جملة المصطلحات والمقولات الوافدة إلى الإسلام على غرار مصطلح الإسلاموفوبيا و"جهاد الجندر"، وغيرها...إلخ[23].

    وإذا سلمنا بأن الحركة النسوية الإسلامية تصنف في خانة الفكر المناهض للحداثة، فإن ذلك لا يعني أنها تتموقع مع الفكر الأصولي أو ما اصطلح عليه بتيار الإسلام السياسي في خندق واحد، بل إنها، على العكس من ذلك، تقف من هذين الفكرين على مسافة واحدة، أي أنها تعارض الفكر الحداثي بقدر ما ترفض الفكر الأصولي، فهي تندرج  في خانة الإسلام التنويري الذي يتبنى إسلاما منفتحا يؤمن بالتطور وبضرورة الاجتهاد في فهم النص وعدم الجمود والتقيد بحرفية النصوص، ومن هنا نفهم سر العداء الذي تناصبه هذه الحركة، في الغالب، إلى الإسلام الأصولي أو الإسلام السياسي الذي يتبنى خطابا متشددا ومتزمتا إزاء المرأة متدرعا بقراءة حرفية للنص دون البحث في أسباب التنزيل أي في السياق التاريخي للنص، فيدعو إلى حبس المرأة في البيت وعدم السماح لها بالخروج دون محرم، وفرض الحجاب عليها، ومنعها من ممارسة حقوقها السياسية، كالحق في الترشح للمناصب السياسية (لعن الله قوما ولوا أمرهم امرأة)، كما نفهم سر نقدها للنسوية العربية بوصفها نسوية علمانية، وهو ما أشارت إليه "ميرفت حاتم" في ردها على بعض النسويات العربيات العلمانيات بخصوص مسألة الحجاب وبعض المسائل الخلافية الأخرى، إذ تقول: "أدت بعض النساء العلمانيات اللواتي ينتمين إلى جيل آخر يرى في النسوية العلمانية المنهج الصحيح والوحيد لقضايا المرأة في وصف الزي الإسلامي كرمز لتراجع نسوي في المنطقة...ومن الصعب علي كامرأة مسلمة غير محجبة، القبول بهذه اللغة العدائية التي تقترب في بعض الأحيان من الخطاب الاستشراقي للمرأة المسلمة، ونظرته السلبية إلى هذه الفئة الكبيرة من النساء المسلمات على أساس الزي كمعيار. سآخذ هنا نوال السعداوي كمثل لهذه النظرة المتدنية للنساء المسلمات أو/ النساء الإسلاميات... في إحدى العبارات التي صاغتها السعداوي عن هذه الفئة الكبيرة من جمهور النساء، وصفت زيهن كـ "حجاب على العقل"... وفي هذا الوصف يوجد الكثير من النظرة الإستشراقية التي تعتبر زي المرأة المسلمة المعيار الأساسي لعدم فاعليتها...[رغم أن] معظم الدراسات الامبريقية، التي أخذت المحجبات موضع بحث، لم تجد فروقا جوهرية بين المحجبات وغير المحجبات من ناحية آمالهن في التعليم والعمل العام، حتى رغبتهن في الزواج، وتكوين أسر، لم تميزهن من غير المحجبات اللواتي عبرن عن الآمال الاجتماعية نفسها. في هذا المجال، لا يختلف الخطاب العلماني الحديث للمرأة عن الخطاب الإسلامي في تعريفه لأهمية دور المرأة في الأسرة...في الوقت نفسه، لا يعني ذلك عدم وجود اختلافات مهمة بين النساء الإسلاميات والعلمانيات، فمثلا المحجبات يعترفن للرجال بالرئاسة في العائلة من أجل تفادي الشقاق، والكثير منهن يؤيدن الإخوان المسلمين ذوي النزعة المحافظة سياسيا ومشروعهم السياسي من أجل دولة إسلامية. هذه الاختلافات لا تعني أن المحجبات تنقصهن الفاعلية... ربما لا تكون خياراتهن هي خياراتي، ولكنني أرفض أن يحاول البعض باسم النسوية أن ينكر حق الخيار للنساء المسلمات أو/ الإسلاميات"[24].

ثانيا ـ مقولات وأطروحات الحركة النسوية الإسلامية

    إن ارتباط الحركة النسوية الإسلامية بالحركة النسوية التي غالبا ما ينظر إليها في الفكر الإسلامي بنظرة عدائية باعتبارها حركة علمانية تعتبر الدين قيد لحرية المرأة ومسؤول عن تخلفها، فضلا عن كون الحركة النسوية الإسلامية قد عرفت نشأتها وازدهارها في الغرب وتحديدا في الولايات المتحدة، كل هذا جعلها محل نقد واعتراض من طرف العديد من الأصوات الإسلامية التي تنظر إلى هذه الحركة بوصفها غزوا فكريا أحيانا وبوصفها حركة هدامة للإسلام من الداخل أحيانا أخرى، وهي تٌهمٌ تتبرأ منها هذه الحركة وتصنف أصحابها في خانة الفكر الأصولي المحافظ الذي يخشى على مصالحه، فهو يريد الحفاظ على الأوضاع الاجتماعية والثقافية كما هي باعتبارها تكرس الهيمنة الذكورية.

    إن الحركة النسوية الإسلامية تؤكد، خلافا لما يزعم خصومها، على خصوصيتها وتميزها عن الحركات النسوية بمختلف تياراتها واتجاهاتها وموجاتها والتي تصنفها جميعا في خانة واحدة هي ما يعرف بالنسوية العلمانية، ومن ثمة، فهي تطرح نفسها كبديل لهذه الحركات التي لا يمكن حسبها أن تحقق طموحات المرأة المسلمة وتلبي حقوقها وتعبر عن هويتها طالما أنها تستبعد الدين وتناضل خارج إطاره.

      فالنسوية الإسلامية ترى أن الإسلام وحده يستطيع أن يضمن حقوق المرأة ويلبي مطالبها، وتبرر النسويات المسلمات دعواهن هذه استنادا إلى النصوص المقدسة، نصوص الوحي ونصوص السنة النبوية، فضلا عن الممارسة التراثية في الحضارة الإسلامية، فهناك عدة أمثلة تنهض شاهدا على المكانة التي تتبوأها المرأة في الإسلام.

    ولا شك أن التراث الإسلامي يتضمن شواهد على مكانة المرأة المرموقة في الإسلام، ولكنه يتضمن إلى جانب ذلك شواهد أخرى على معاناة المرأة من التهميش والإقصاء والقمع، وقد لا نبالغ إذا قلنا بأن الوضع المتردي للمرأة المسلمة في العصور الحديثة إنما هو نتاج لهذه الثقافة الموروثة، فهاهو ذا الغزالي، وهو الفقيه الملقب بحجة الإسلام والذي يعد مرجعا للفكر الإسلامي السني منه والشيعي على السواء يرى أن مكان المرأة الطبيعي هو البيت، وأنه لا يجوز لها أن الخروج من البيت من دون محرم وغيرها من الآراء التي تصنفها النسويات المسلمات في خانة الفقه الذكوري.

     ولا يقتصر الأمر على اجتهادات الفقهاء والعلماء بل يتعداه إلى النصوص المؤسسة ذاتها، فظاهر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يوحي أو هكذا بدا لبعض العلماء والفقهاء ورجال الدين أن الإسلام يميز بين الجنسين ويعطي القوامة دائما للرجل، ومن هذه الآيات قوله تعالى: "الرجال قوامون على النساء"، وكذا الآيات الخاصة بالميراث والطلاق والشهادة وغيرها، ومن الأحاديث قوله (ص): "النساء ناقصات عقل ودين"، وقوله (ص): "لعن الله قوما ولوا أمرهم إمرأة)،...إلخ، وهكذا فقد استغل دعاة الهيمنة الذكورية هذه النصوص الدينية في إنتاج فقه ذكوري، وتفسير ذكوري، ولاهوت ذكوري يبرر التهميش والقمع والتسلط والهيمنة ضد المرأة، كما ترى ذلك بعض النسويات المسلمات.

    لكن النسويات المسلمات تتبرأن من هذا التفكير وترين فيه تفسيرا واجتهادا بشريا معبرا عن الهيمنة الذكورية وعن بنى ثقافية واجتماعية الإسلام منها براء، ومن هنا حاولن تقديم قراءات واجتهادات مغايرة لهكذا نصا دينيا، قرآنا كان أم حديثا، ورحن يؤسسن للاهوت نسوي وفقه نسوي وتفسير نسوي يقوم حسبهن مقام اللاهوت السائد الذي يبرر الهيمنة الذكورية تبريرا دينيا. "ففي محاولة لتنمية هذا الإطار النسوي الإسلامي، تستعمل"أميمة أبو بكر"حادثة مهمة في تاريخ المجتمع الإسلامي في عهد الرسول (ص) لتؤسس إطارا مؤيدا للمرأة، إذ أنه حين اعترضت الصحابيات والنساء المسلمات في ذلك الوقت على نزول نصوص قرآنية تخاطب الرجال والمؤمنين فقط، نزلت آيات قرآنية بعد ذلك تخاطب المؤمنين والمؤمنات. وتقول أميمة هنا إن هذه الواقعة تدل على تجاوب الله، سبحانه وتعالى، مع احتياجات النساء، وتطرح الشك في التفسيرات/ القراءات الأبوية التي تتجاهل أو تنكر حقوقهن ومساواتهن للرجال. أميمة ليست الوحيدة التي تحاول تأسيس موروث إسلامي مغاير للطرح الأبوي المسيطر، بل هناك أيضا فريدة بناني في المغرب، وزينب رضوان في مصر، وآمنة ودود في الولايات المتحدة، وزيبا مير حسيني في إيران، اللواتي قمن بتطوير هذا المجال البحثي الجديد"[25] عبر دراسات وأبحاث فكرية وأكاديمية جادة وجريئة على غرار كتاب "القرآن والمرأة" لأمينة ودود الذي قدم ولأول مرة تفسيرا للقرآن من منظور نسوي[26]، وكتابات فاطمة المرنيسي التي نذكر منها: " الجنس، الإيديولوجيا والإسلام" ، "الجنس كهندسة اجتماعية"، "السلوك الجنسي في مجتمع إسلامي رأسمالي"، "ما وراء الحجاب"، "السلطانات المنسيات"، "الحريم السياسي" وغير ذلك. فعبر هذه الكتابات حاولت فاطمة المرنيسي معالجة مشكلة المرأة بجدية وجرأة غير معهودة ومألوفة، وهي تقف في وجه حجاب العقل وتجيء بآراء وأفكار وتفسيرات واستنتاجات اعتماداً على مصادر تراثية كثيرة. وتشير المرنيسي الى تزايد الخطابات الفكرية حول المرأة، الساعية والرامية إلى تغييب الخطاب العلمي التاريخي الذي يمكن المرأة العربية من النهوض والتطور والظهور بصورة أفضل وأحسن[27].

    وقد جاء الخطاب النسوي الإسلامي في الواقع في ظل ظروف وأوضاع خاصة بالمرأة المسلمة لعل أبرزها تصاعد الفكر الأصولي المتشدد إزاء المرأة، والخطاب الحداثي بشقيه الغربي والعربي الذي يدافع عن هوية أنثوية وعن حقوق للمرأة لا تتماشى حسب النسويات المسلمات مع هوية المرأة المسلمة، مثل المطالبة بالحرية المطلقة، المساواة المطلقة مع الرجل، الدفاع عن الزواج المثلي، الثورة على الحجاب... إلى غير ذلك من المطالب التي ترى فيها بعض النسويات المسلمات منافية للدين الإسلامي ولهوية المرأة المسلمة. غير أن ذلك لا يعني أن الخطاب النسوي الإسلامي يتسم بالوحدة والتجانس، كلا، بل إن هذا الخطاب يتسم بالاختلاف والخصوصية تبعا لاختلاف وضعية المرأة المسلمة من بلد لآخر، فالنسوية الإسلامية في البلاد العربية تتبنى خطابا يختلف عن خطاب النسوية الإسلامية في الغرب، وهكذا. إلا أن هذا الاختلاف لا يمنع التقاء هذه الخطابات حول بعض المقولات والأطروحات والمفاهيم التي تحدد هويته ولونه، نوجزها فيما يلي:

ـ تتفق النسويات المسلمات على أن المرأة المسلمة تعاني من التهميش والإقصاء ومن الهيمنة الذكورية، تقول كلثم الغانم في تحليلها لوضعية المرأة العربية المسلمة:"يشير تأمل واقع المرأة العربية إلى أنها ما تزال عند مستوى تحديد الأولويات، وتلبية الاحتياجات الدنيا من المساواة"[28] وهو ما تؤكده ميرفت حاتم بدورها في قولها: "السجل التاريخي يظهر أن المجتمعات العربية الأبوية ومؤسساتها قللت من قيمة رؤى النساء، وتعاملت معها إما بشكل انتقائي أو تجاهلتها تماما"[29].

     فالمرأة العربية المسلمة تعيش وضعا مزريا وأسوأ من نظيرتها في البلاد الغربية ويتجلى ذلك في عدة مظاهر منها ارتفاع نسبة الأمية في صفوف النساء العربيات، ضعف نسبة المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية،  مع وجود تفاوت من بلد عربي إلى آخر، فإذا كانت المرأة العربية قد حققت بعض المكاسب في بعض البلدان العربية من خلال حصولها على التعليم وعلى بعض الوظائف، بل إنها استطاعت الوصول إلى البرلمان وأن تكون وزيرة، فإن وضعها في بلدان أخرى هو أسوأ بكثير، ارتفاع معدلات الطلاق، وغير ذلك من المظاهر التي تعكس الوضع المتردي للمرأة المسلمة، وبالخصوص داخل البلاد الإسلامية، ومن هنا، فإن الحركة النسوية الإسلامية ترفع صوتها منددة بهذا التهميش وبالقمع المسلط ضد المرأة، مطالبة بتغيير النظام البطريركي، وبضرورة ممارسة حقوقها كاملة، كالحق في العدالة والمساواة وغيرها من الحقوق التي أقرها الإسلام، مع تفاوت بين النسويات المسلمات بين من تطالب بالمساواة الكاملة مع الرجل ومن تطالب بمساواة نسبية في إطار الاختلاف الجنسي الذي أقره الدين الإسلامي، بحيث ترضى بعض النسويات بأن تكون القوامة للرجل، وبأن تكون بعض الأعمال حق للرجل دون المرأة، نظرا للاختلاف البيولوجي بين الجنسين.

ـ الإيمان بأن التقاليد الأبوية الجاهلية هي المتسببة في تدهور وضع النساء، وليس الإسلام. فالإسلام منح المسلمة مجموعة من الحقوق التي حرمت منها النساء في ديانات ومجتمعات أخرى. وهذا الدين قادر على تحرير المرأة متى فهم على الوجه السليم. كما أن إصلاح وضع المرأة ممكن من داخل المنظومة الإسلامية. وبناء على ذلك، تأتي أطروحة النسوية الإسلامية ردا على النسوية الغربية الراديكالية ونموذجها التحديثي، وتكون مطالب المسلمات تبعا لذلك مختلفة عن مطالب النسويات الغربيات. فالنسوية المسلمة ترفض الأساس النظري الذي عولجت في إطاره قضية تحرير المرأة. فالمسلمة قادرة على أن تتحرر من دون أن تتماهى مع الأنموذج الغربي للمرأة[30].

ـ رفض المركزية الذكورية، والاعتقاد بأن الدين قد تشكل عبر رؤية رجولية آن الأوان لفضحها، وإبراز التحيزات الذكورية الكامنة في الخطاب والوعي وتعرية المصالح الذكورية، فضلا عن التنديد بهياكل الهيمنة وأشكال القهر المسلط على النساء. فالتمييز الحاصل ضد المرأة هو نتيجة قراءة حرفية وسيئة للنصوص الدينية تغلب موازين القوى والمصالح الاجتماعية[31].

ـ العمل على إعادة اكتشاف المرأة لذاتها وفعاليتها، ومساعدتها في عملية صياغة هويتها الخاصة، إذ لا يعقل أن تتماهى المرأة مع الشخصية الذكورية وتعدها الأنموذج. إن زيادة وعي المرأة بذاتها واكتسابها ثقة في قدراتها وكفاءتها سيمكنانها من اكتساح مجال المعرفة الدينية بطريقة جدية. وهنا توجه الانتقادات إلى الرجال الذين أنتجوا خطابا إسلاميا متشددا، وكذلك إلى الداعيات الإسلاميات لأنهن اعتبرن تحرير المرأة مفهوما غربيا (زينب الغزالي وصافيناز كاظم...) ولم ينتجن تفسيرات خاصة بهن حول قضايا المرأة. ولم تتوقف مطالب المنضويات تحت حركة الإسلامية النسوية عند حدود الاحتجاج والانتقاد، بل إنهن طالبن بفتح باب الاجتهاد أمام النساء العالمات بآليات هذا العلم وشروطه لخدمة مصالحهن وإشاعة ثقافة الاجتهاد حتى يزداد عدد المجتهدات والفقيهات. فالمطلوب من الباحثة المسلمة المعاصرة التركيز على تحليل البناء الفقهي، وإنجاز مراجعة شاملة لكل الأحكام الفقهية، والعمل على إحياء حركة الاجتهاد عموما، وتقديم الطرح الفقهي البديل، وتعتبر أماني صالح أن قضية الاجتهاد تعكس رؤية ثقافية شاملة للحياة، وهي "قضية حتمية تفرضها التحولات النوعية التي طرأت على واقع المرأة ...في المجتمع ووعيها وقدراتها"، فضلا عن التغيرات الحاصلة على مستوى الوعي والإدراك التي تجعل الدلالات والمعاني متأثرة بفعل الزمان والمكان، وهو أمر يدفع الباحثة إلى العمل على مراجعة المنهج الخاص باستنباط الأحكام وعلم أصول الفقه والقياس والإجماع[32].

ـ تأكيد أهمية مراجعة الإسلام لتطوير نظرية إسلامية حول تحرير المرأة. وهو مشروع لن يتسنى تحقيقه إلا بواسطة الاجتهاد، وإعادة تفسير الأصول النصية والقيم التقليدية واستقصاء التاريخ الإسلامي. ومن ثمة، فإن المنضويات تحت هذه الحركة يعملن على إعادة قراءة النصوص، وتحليل البنى الاجتماعية والثقافية المسؤولة عما يصيب النساء من غبن. وهن حريصات على تقديم خطاب ديني جديد حول المرأة يتعامل معها وفق أحكام الإسلام "الحقيقية"، إذ لا يخفى أن الرجال هم الذين أقصوا المرأة عن تولي المناصب الدينية كالقضاء والإفتاء، ومنصب المأذونة، حتى لا تبين المرأة للناس أصول التشريعات. وبتفكيك التاريخي البشري عن النصوص الإسلامية التأسيسية يتحقق إنصاف المرأة. أما النسويات المقيمات في الخارج كآمنة ودود، ورفعت حسن... فإنهن لم يكتفين بمناهضة التفسير الذكوري والتركيز على مفاهيم الأسرة ولمجتمع، بل كرسن كتاباتهن للدعوة إلى الفصل بين القرآن والحديث. تقول رفعت حسن: "إن القرآن أكثر إنصافا من شأن النوع، بينما يستمد معظم الأحكام الإسلامية المجحفة بالنساء مصادره من الحديث"[33].

ـ ضرورة التمييز بين الشريعة، فهي أصل ثابت، ولها أحكام شرعية منزلة وقطعية الدلالة، والأحكام الاجتهادية الاستنباطية البشرية المراعية للاعتبارات الاجتماعية المتغيرة[34].

ـ اعتبار بعض المنضويات تحت هذه الحركة أن النسوية الإسلامية تمثل سفينة النجاة بالنسبة إلى المأزق الذي يعيشه الفكر الإسلامي. فهي "الطريق الثالث" و"الخطاب البديل"، بل إنها تغيير للنسوية ذاتها وتحويل لمرجعيتها من خلال بلورة خطاب نسوي ديني قائم على أسلمة مصطلحات تستعار من الفكر النسوي. فيغدو الحديث عن أسلمة التمكين، وأسلمة الجندر، وجهاد الجندر...وبذلك لم تعد النسوية الغربية متمركزة على ذاتها ومروجة لخطابها الاستشراقي[35].

ـ لقد أفضت هذه الحركة إلى تفعيل دور المرأة في مجال المعرفة الدينية وإقدامها على اقتراح مجموعة من الاجتهادات تتصل بعدد من الآيات الخاصة بأحكام النساء، كالدية، والمهر، وتقديم قراءات مختلفة لمجموعة من المفاهيم كالقوامة، والطاعة، والتفاضل، والنشوز، والولاية، والخلافة، والعدل، والضرب، فضلا عن الاشتغال على الخطاب الذي يصاغ حول النساء، والوقوف عند بعض المفاهيم في التراث التي تسيء إلى المرأة، كالاحتباس والنكاح. وقد عملت الباحثات على استقراء المفاهيم، والنظر إليها في علاقتها ببعضها البعض، وربطها بالقيم الكلية الواردة في النص التأسيسي، مستفيدات في ذلك من مقولة الجندر. وهذا الانكباب على دراسة التراث الديني الإسلامي من منظور نسائي يحاول أن يساير ما فعلته النساء في اليهودية والمسيحية من أجل إنتاج لاهوت نسوي[36].

ـ تطرح النسوية الإسلامية نفسها كبديل للحركات النسوية التي تصفها بالعلمانية، باعتبار أن هذه الأخيرة غالبا ما تعتبر الدين مسؤولا عن تخلف المرأة وانحطاطها، في حين أن النسوية الإسلامية تميز بين الدين وبين التفكير الديني، فالدين الإسلامي أنصف المرأة، وأما الفكر الديني فهو يستثمر في الدين من أجل ممارسة القمع والتسلط  والتهميش على المرأة، ومن هنا تدعو النسويات المسلمات إلى إعادة قراءة الدين وفهمه عبر منظور نسوي يعيد للمرأة اعتبارها، وهو ما عبرت عنه ميرفت حاتم في قولها: "إن أحد أهم إنجازات هذا الخطاب الجديد هو تفنيد دعاوى خطاب الحداثة وطرحه للمشروع التحريري للمرأة المسلمة، فلفترة طويلة، أقنع خطاب الحداثة الكثيرين أن الإسلام عقبة أساسية لتحرير المرأة. في هذا الطرح، إن الحل الوحيد لتحرير المرأة هو العلمانية لفصلها بين الدين والدولة، وتهميشها لدور الإسلام كمصدر رئيسي لعدم المساواة في الطلاق، والإرث، وحضانة الأطفال، والشهادة في المحاكم. هنا قامت النسويات الإسلاميات بالفصل بين الإسلام وتفسيرات الرجال له عبر التاريخ، ولوم هذه التفسيرات على عدم مساواة المرأة والرجل داخل هذا الإطار الديني. وبالفعل، قامت منظرات هذا المنهج بتقديم تفسيرات جديدة للآيات القرآنية ، والأحاديث، والتاريخ الإسلامي، بطريقة تغير من فهمنا لحقوق المرأة في الإسلام وتطرح الشك في التفسيرات /القراءات الأبوية التي تتجاهل أو تنكر حقوقهن ومساواتهن للرجال"[37].

 ثالثا: النسوية الإسلامية ومعضلة الخصوصية

    إن المتمعن في خطاب النسوية الإسلامية، يتبين له أن هذا الخطاب يستثمر في خطاب الحركة النسوية، فهو يعيد إنتاج نفس الخطاب تقريبا من خلال شعارات تحرير المرأة ومساواتها مع الرجل، والاختلاف الجنسي، وحقوق المرأة،...إلخ وغيرها من المقولات والأطروحات التي نادت بها الحركة النسوية (العلمانية). ولكنه في نفس الوقت يسعى إلى نقد هذه الحركة النسوية بل ومجاوزتها، بحيث يطرح نفسها كبديل لهذه الحركة التي يحملها مسؤولية الإخفاق في حصول المرأة على حقوقها. ومن هنا، فإن الدارس والمتتبع لهذه الحركة يجد نفسه إزاء مفارقة واضحة، يمكن صياغتها في التساؤل التالي: كيف تلتقي النسوية الإسلامية مع الحركة النسوية (العلمانية) وتتبنى معظم أطروحاتها ومقولاتها، وفي ذات الوقت تدعي الخصوصية وتطرح نفسها بديلا للحركات النسوية الأخرى وخصوصا الغربية منها؟

      إن هذه المفارقة هي محور إشكالية كبيرة واجهتها حركة النسوية الإسلامية وهي التي عبرنا عنها في هذه الورقة بمعضلة الخصوصية. بحيث نجم عنها اختلاف المواقف من هذه الحركة بين ناقد معارض ومؤيد مرحب. فماهي يا ترى مظاهر الخصوصية في الحركة النسوية الإسلامية؟ وما موقف الخصوم منها؟

1ـ دعوى الخصوصية ومرتكزاتها في الخطاب النسوي الإسلامي

     رغم أن الحركة النسوية الإسلامية قد استثمرت في خطاب الحركة النسوية فأخذت عنها بعض مقولاتها وأطروحاتها ومفاهيمها، وهو ما يعكسه هذا المصطلح الذي هو بمثابة تركيبة أو توليفة بين مصطلحين اثنين هما الإسلام والنسوية، إلا أن ذلك لا يقدح في مشروعية هذه الحركة ولا يطعن في خصوصيتها بحسب أنصارها الذين يؤكدون على خصوصية هذه الحركة، رغم أنها تلتقي مع الحركة النسوية العلمانية في بعض المقولات والأطروحات والمفاهيم.

    وتنبع خصوصية الخطاب النسوي الإسلامي حسب أنصاره من أمرين أساسيين، أولهما: المرجعية الإسلامية، فهو يؤسس خطابه انطلاقا من النص القرآني ومن الحديث النبوي ومن التراث الإسلامي، بعد أن يعيد قراءة هذه النصوص وفق منظور نسوي يجعلها في تعارض مع التفسير الذكوري لها. وثانيهما: خصوصية الوضع الذي تعيشه المرأة المسلمة سواء أكانت في الداخل أو كانت في الشتات، فهذا الوضع يختلف عن وضع المرأة الغربية الذي نتج عن سياق ثقافي وتاريخي مختلف تماما عن السياق الإسلامي، وهذا يقتضي خطاب نسوي مغاير. ومن هنا، يرى دعاة هذا الخطاب أن الحرية والمساواة والعدالة وغيرها من المفاهيم التي ينادي بها الخطاب النسوي الإسلامي هي مفاهيم تتماشى مع هوية المرأة المسلمة وخصوصيتها، ولا شأن لها بمطالب المرأة الغربية، بل أكثر من ذلك، فإن النسوية الإسلامية غالبا ما تدعو إلى نقد الخطاب النسوي ومراجعته بعد أن رأت فيه خطابا غربيا تغريبيا (حداثيا وعلمانيا) لا يعبر عن هوية المرأة المسلمة ووضعها الاجتماعي.

     إن النسوية الغربية في نظر بعض النسويات المسلمات تمثل حركة خطيرة على ثقافتنا وفكرنا وهويتنا، فخطابها يتنافى مع خصوصيتنا الثقافية والحضارية بالنظر إلى مطالبها الاجتماعية والسياسية كالمطالبة بالحق في الحرية والمساواة المطلقة، والمطالبة بالحق في التعددية الزوجية وبالزواج المثلي والحق في الطلاق والإجهاض واختيار الشريك إلى غير ذلك من المطالب. وفي نظر هؤلاء، فإن النسوية قد ظهرت في سياق تاريخي غربي مخصوص هو الفكر التنويري الحداثي الذي رفع شعار حقوق الإنسان، وتطورت في إطار خطاب ما بعد الحداثة بمقولاته المعروفة وعلى رأسها مقولة الاختلاف.

وإذا كان خصوم النسوية الإسلامية يرفضون دعوى الخصوصية التي تتمسك بها النسوية الإسلامية بحجة تأثرها بالفكر النسوي العلماني بمرجعيته المتمثلة في فكر الحداثة وما بعد الحداثة، فإن أنصار النسوية الإسلامية يرون أن ذلك لا يقدح في مشروعيتها وخصوصيتها، لاعتبارات عدة أهمها:

ـ أولا، أن مسألة التأثر بالفكر الغربي لا تقتصر على الخطاب النسوي بل تخص معظم الاتجاهات في الفكر العربي والإسلامي كالاتجاه الوجودي والشخصاني والوضعي والماركسي والحداثي وما بعد الحداثي، ...إلخ، ومسألة التأثير والتأثر طبيعية في الفكر الإنساني عامة.

ـ ثانيا، أن التأثر بالنسوية الغربية، والذي يتجلى في العديد من المقولات، مثل الحق في الاختلاف، الجندرية، الحق في المساواة، الحق في العمل والتعليم والحرية، الحق في اختيار الزوج...كل ذلك لا ينتقص من قيمة هذه الحركة ولا يطعن في خصوصيتها وصدقيتها، طالما أن هذه المطالب مشروعة وهي ليست وليدة السياق التاريخي الغربي فقط بل إنها تنسحب على وضع المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية، فالخطاب النسوي الغربي له وجه خاص ووجه كوني يخص المرأة كإنسان بغض النظر عن جنسه أو ثقافته أو حضارته...

ـ ثالثا: أن النسوية الإسلامية لها سياقها الخاص أيضا، فهي تستمد مرجعيتها من الدين الإسلامي ومن الواقع العربي، فالتهميش والقهر والتسلط الذي عانته المرأة المسلمة ولا تزال في كثير من المجتمعات قد يفوق ما تعرضت له المرأة الغربية، فالهيمنة الذكورية التي كانت سببا في ظهور النسوية لا تقتصر على المرأة الغربية وحدها، بل تشمل المرأة المسلمة أيضا باعتبار أن المجتمعات الإسلامية هي مجتمعات أبوية بطريركية.

ـ رابعا: أن الخطاب النسوي الإسلامي حتى وإن تقاطع مع الخطاب النسوي الغربي في بعض مقولاته ومطالبه إلا أنه يريد تطويع هذه المقولات والمفاهيم  بما يتماشى مع واقع المرأة المسلمة وهويتها.  

ـ وأخيرا، ومن ملامح الخصوصية في الخطاب النسوي الإسلامي، هو أن هذا الأخير لا يتبنى بعض المقولات التي تتبناها النسوية الغربية مثل مسألة الدفاع عن الزواج المثلي، والحق في الإجهاض، والحرية الليبرالية، و... وفي مقابل ذلك، فهو يطرح بعض القضايا التي لا نجدها في الخطاب النسوي الغربي لأنها ترتبط بالثقافة السائدة في المجتمعات العربية والإسلامية وحدها مثل مسألة الحجاب، ومسألة ختان البنات، ومسألة تولي المرأة للمناصب السياسية العليا كالرئاسة والوزارة، والعمل في بعض الوظائف التي ينظر إليها على أنها وظائف ذكورية كالقضاء. ومسألة مواجهة الخطاب الأصولي المتشدد إزاء المرأة (الخطاب الذي يرفض خروج المرأة دون محرم، ويرفض عمل المرأة خارج البيت (فالمرأة خلقت لتربية الأولاد)، ويرفض السفور، ويعتبر صوت المرأة عورة...إلخ).

2 ـ نقد دعوى الخصوصية

     لقد تعرضت الحركة النسوية الإسلامية إلى انتقادات لاذعة، وقد انصبت معظم هذه الانتقادات حول دعوى الخصوصية، ويمكن القول بأن هذه الانتقادات قد جاءت من مصدرين مختلفين، أحدهما يتمثل في الخطاب الإسلامي الأصولي. والثاني يتمثل في الخطاب النسوي العلماني، وسوف نتناول فيما يلي أهم الانتقادات التي وجهت إلى هذه الحركة سواء من طرف الفكر الأصولي أو من طرف الحركة النسوية العربية (العلمانية)[38]:

ـ إن الحركة النسوية تمثل في منظور الأصوليين "دعوة إلى السفور والقضاء على الحجاب وإباحة الاختلاط، وتحرير المرأة من كل الآداب والشرائع الإسلامية، وتقييد الطلاق، والاكتفاء بزوجة واحدة والمساواة في الميراث مع الرجل، والدعوة إلى ترسيخ العلمانية الغربية أو اللادينية في البلدان الإسلامية، بحيث لا يتحكم الدين في مجال الحياة الاجتماعية خاصة"[39].

    ومن هنا، يرى هؤلاء الأصوليون أن الجمع بين النسوية والإسلام هو من قبيل الجمع بين المتناقضات. إلى ذلك يرى دعاة هذا الفكر بأن هذا الاتجاه ليس له علاقة بالإسلام إلا من حيث الاسم (المصطلح)، وأما في واقع الأمر، فهو لا يعدو أن يكون صورة مستنسخة من النسوية الغربية، فهي مجرد رجع صدى للخطاب النسوي الغربي الذي يرتكز على مرجعية غربية محضة تمثلت بداية في فكر الحداثة وخطاب حقوق الإنسان الذي حملته مواثيق منظمة الأمم المتحدة، ثم في مرحلة لاحقة تمثلت في فكر ما بعد الحداثة (دريدا، فوكو، لاكان،...)، فهي حسبهم مظهر من مظاهر الغزو الفكري الغربي للثقافة العربية والإسلامية.

ومن جهة أخرى، تعترض بعض النسويات العلمانيات على مصطلح النسوية الإسلامية بحجة أن فيه نوعا من اللاتجانس بين المصطلحين، فهو يجمع بين مرجعيتين مختلفتين (الإسلام والنسوية). فالإسلام معتقد ديني، والنسوية حركة حقوقية مدنية عالمية ترفض إقحام الدين في مجال الحركة النضالية. فكيف يمكن التوفيق بين موقف إيماني وموقف حقوقي؟ وتعتبر بعضهن أن هذا الجمع بين المتضادين غير ملائم وغير مسؤول. ولا يأتي الاعتراض من جانب النسويات العلمانيات فحسب، فبعض الناشطات الإسلاميات ترفضن هذه التسمية، لأن النسوية الغربية لا تتلاءم مع الواقع الثقافي والاجتماعي للمجتمعات الإسلامية، وحتى إن حاولنا إضفاء صفة الإسلامية على هذه الحركة، فإنها غير مقبولة، لأن مصطلح "النسوية الإسلامية" صنعه الغرب وفرضه على الوطن العربي. أما هبة رؤوف عزت، فتتبنى أطروحات الحركة، وتعتبر أن المرأة لم تنل حقوقها التي منحها إياها الإسلام، بيد أنها ترفض التسمية، لأن النسوية تناقض الدين، وتومئ إلى ما يمثله الغرب من سيطرة واستعمار وهيمنة. لذا تقترح استبدال النسوية الإسلامية بالحركة النسائية الإسلامية. ولا يختلف موقف عزيزة الهبري عن موقف هبة رؤوف عزت، فهي تحرص على أن تتميز من النسويات الأمريكيات بانتمائها إلى المنظومة الإسلامية، والتعبير عن وجهة نظر نسائية[40].

 ـ إذا كانت النسوية الغربية قد مرت بمراحل تاريخية لها خصوصياتها وطروحاتها المتعددة، وتفرعت إلى نسوية ليبرالية، ونسوية اشتراكية، ونسوية راديكالية، ونسوية بيئية، وصار الحديث عن نسوية وما بعد نسوية وغيرها، فعن أية نسوية نتحدث في الوطن العربي؟ هل تعد النسوية الإسلامية فرعا جديدا من بين فروع النسوية الغربية؟ وإذا كان المقصود بالنسوية الإسلامية النسوية التي تخص المسلمات، فهل يعني بروزها تحويلا لمساري النسوية الغربية والنسوية العربية معا؟[41]

ـ إذا كانت النسوية في الأصل حركة سياسية ذات أهداف اجتماعية، ثم تحولت بعد ذلك إلى حركة اجتماعية تهدف إلى إثبات استقلالية المرأة، وإبراز أهمية دورها في الحياة، والدفاع عن حقوقها، فهل يعد إضفاء نعت الإسلامية على النسوية تحديدا لمجال عمل هذه الحركة، وتسييجا لإطارها النظري حتى تنسجم مع الرؤى السائدة في المجتمعات "الإسلامية"؟ فللغرب نسويته، وللمجتمعات الإسلامية نسويتها الخاصة التي تتلاءم مع "الخصوصيات" والسياق التاريخي الراهن الذي أصبح فيه المد الأصولي حقيقة لا مرية فيها[42].

ـ إذا كانت مسلمات المهجر المنتميات إلى النسوية الإسلامية يدافعن عن حقوقهن في التعبير والتفكير والاعتقاد، وعن مكتسباتهن في ظل أنظمة أقرت بمواطنتهن، فإلى أي مدى سيكون تماهيهن مع الخطاب الإسلامي السائد في البلدان العربية؟ ألا يطرح هذا الأمر قضية تعدد الإسلام، واختلاف الإسلام الأوروبي أو الأمريكي عن الإسلام العربي؟[43]

ـ إذا كانت النسوية الإسلامية تتخذ من القرآن الكريم مرجعية لها، فإن هذا يطرح مشكلة الاختلاف والتعدد داخل هذه الحركة، بحيث أن النصوص تحتمل عدة تأويلات وهو ما يطرح مشكلة التجانس داخل الخطاب النسوي الإسلامي، الأمر الذي يجعلنا ربما نتحدث عن نسويات إسلامية لا نسوية إسلامية. والأمر نفسه يطرح بالنسبة إلى نسويات الداخل ونسويات الشتات، فرغم أنهن يعتمدن مرجعية واحدة هي الإسلام، إلا أن الخطاب يختلف، لأن لكل منهما وضع خاص وواقع خاص، فالمرأة المسلمة التي تعيش في كندا أو الولايات المتحدة لا تطرح أمامها مسألة العمل خارج البيت أو مسألة التعليم، أو مسألة قيادة السيارة مثلا، بخلاف المرأة داخل بعض البلاد الإسلامية.

ـ إن الحركة النسوية الإسلامية تمثل "من منظور بعض الإسلاميين المحافظين والمتشددين، علامة على الاغتراب. فالغرب غزا الأمة الإسلامية فكريا في البدء، بالنسبة إلى العلمانية، وهاهو اليوم يوفد إلينا النسوية الإسلامية التي لا تخدم الأمة، لأنها دعوة ترتكز على الهوية الأنثوية وتشجع الفردانية وتهاجم الرجال. ويتهم المحافظون الباحثات بالافتقار إلى الكفاءة الضرورية في دراسة الدين لتفسير النصوص الدينية بشكل صحيح، خصوصا أن عددا منهن لا يعرف اللغة العربية: لغة القرآن. ويناصب عدد كبير من الرجال هذه الحركة، لأنها تهدد مصالحهم التي طالما تمتعوا بها في ظل المجتمع البطريكي، وتعادي فئة من النساء النسوية الإسلامية لأنها تحول دون الاستمتاع بالحماية الذكورية، وذلك من خلال الدعوة إلى تغيير الأدوار الجندرية[44].

ـ تعتبر النسوية الإسلامية بحسب الناشطين الحقوقيين واليساريين، مزدوجة المعايير، فهي تستغل الفراغ المسجل في المشهد السياسي الثقافي بسبب تراجع الفكر العلماني واليسار والليبرالية لتنتج خطابا دينيا توفيقيا: يقدح في النسوية الغربية، وفي الآن نفسه يستثمر آلياتها في التحليل ويظهرها في لبوس ديني. تقول دلال البدري في هذا الصدد:"ورثت النسوية الإسلامية كل مفاعيل اندفاعة النسوية الغربية، لكنها تنكرت لها، وقالت إنه الإسلام. أما معتز الخطيب، فإنه يرى أن النسوية الإسلامية تعمد إلى "إسقاط فكرة الجنوسية النسوية على التاريخ الإسلامي"[45]

ـ تمثل الحركة النسوية الإسلامية في نظر بعض خصومها حركة توفيقية تلفيقية وهي مظهر من مظاهر الانفصام في الفكر الإسلامي، وهو ما عبرت عنه "أمل قرمي" في قولها: "تقوم هذه الحركة على مبدأ الانتقائية، فهي تأخذ من النسوية الغربية ما ينسجم مع أهدافها، بل إنها تستفيد من النقد النسوي، ونقد ما بعد الحداثة، وتأخذ من الإسلام ما تراه ملائما، وهو أمر يدفعنا إلى التساؤل: ألا يعتبر اللجوء إلى الإسلام توظيفيا؟ ألا يعني هذا الارتباط بالسلف الصالح، والبحث عن النماذج النسائية المشرقة استمرار العمل بمبدأ الاتكال والتبعية: أن تكون الحركة عوالة على إنجازات الماضي غير قادرة على فك الطوق، والتحرر من الأسر؟ ثم ألا يعد اللجوء إلى النسوية توظيفا نفعيا؟ ألا يمثل هذا المنزع التوفيقي ارتدادا على الدعوة إلى الفصل بين مجالات الدين والدنيا، التي نادى بها الجيل الأول من النسويات في مجتمعات إسلامية عديدة؟ ألا يعتبر هذا الطرح التلفيقي التوفيقي علامة دالة على استشراء حالة الانفصام: إقبال على بعض مكتسبات الحداثة، ورفض بعضها والعمل على تشكيل حداثة داخلية لا تتماهى مع الحداثة الغربية؟"[46]

ـ تؤمن رائدات هذه الحركة بدور العامل الديني في تقوية دور المرأة الثقافي الاجتماعي، وتمكينها في المجال العام...ولكن ألا يؤدي هذا إلى التمييز بين النساء داخل المجتمع الواحد على أساس الدين؟ ألسنا إزاء تمييز بين دراسات العلمانيات المسلمات إسلاما ثقافيا، والباحثات المسلمات الملتزمات؟ ثم ألا تعد الحركة نخبوية في خياراتها وأهدافها مؤثرة الاهتمام بـ"النساء العالمات؟[47]

ـ ومن منطلق التشكيك في هذه الحركة والطعن في صدقيتها تتساءل أمل قرمي:"هل تندرج هذه التوليفة الجديدة "الإسلام النسوي" أو "النسوية الإسلامية" (في البلدان العربية بالخصوص) في إطار المواقف الدفاعية: الرد على الغرب الذي استشرت فيه صور نمطية بشأن الإسلام، وبخاصة المسلمات، وكذلك الرد على الإسلام السياسي؟"[48]

ـ تومئ تحليلات رائدات النسوية الإسلامية إلى مخاوف الرجال، بيد أن الجمع بين النسوية والإسلام يوحي، هو أيضا، بوجود مخاوف لدى النساء تجعلهن يبحثن عن المخرج. ثم إن شيوع مصطلح "الإسلام النسوي" يوحي أيضا بوجود اتجاه معاكس مخبر عن خوف المسلمات من الفكر الأصولي المتشدد، مما يدفعهن إلى تمييز حركتهن من غيرها من الحركات بأنها معبرة عن مطالب نسوية تتوارى تحت مظلة الإسلام التنويري[49].

ـ تطرح النسوية الإسلامية قضايا تتصل ببناء الهوية وأشكال التعبير عنها: الهوية الأنثوية والخطاب الهووي الاحتجاجي ضد الغرب الذي يعتبر المرأة رمز الهوية الثقافية. ولعل حضور النسوية الإسلامية معبر عن واقع هيمنت فيه الهوية الدينية على سائر الهويات الأخرى[50].

ـ إذا كانت ممارسة النسوية مظهرا من مظاهر الحداثة، فإن النسوية الإسلامية قد تكون مخبرة عن علاقة إشكالية بالفكر الحداثي، وسوء فهم لخطابات صيغت حول الاختلاف والغيرية، والديمقراطية، والتعددية، والمواطنة، والمساواة، والعلمنة وغيرها[51].

خاتمة:

    ختاما لما جاء في هذه الورقة، يمكن القول بأن إشكالية الخصوصية التي يطرحها مصطلح النسوية الإسلامية، يعيد إلى الأذهان ذلك الجدل الفكري الكبير الدائر في الفكر العربي والإسلامي بخصوص هذه المشكلة التي لا تتعلق بالفكر النسوي وحده بل بمختلف اتجاهات وتيارات الفكر العربي والإسلامي المعاصر باعتبار أن معظم هذه الاتجاهات تستند إلى مرجعية غربية رغم سعي أصحابها إلى تبيئة وتأصيل مفاهيم ومقولات الفلسفة الغربية كما هو الحال مع التيار الوضعي عند زكي نجيب محمود والتيار الوجودي مع عبد الرحمن بدوي والتيار الجواني مع عثمان أمين والتيار الشخصاني مع محمد عزيز الحبابي والتيار الماركسي مع حسن حنفي وتيزيني ،...إلخ.

     فدعاة التأصيل والخصوصية والسلفية يقفون من هذه الاتجاهات موقفا نقديا بحكم مرجعيتها الغربية رافضين إمكانية إسقاط هذه الاتجاهات على الواقع العربي الإسلامي بحجة أنها نشأت في سايق ثقافي وتاريخي مغاير، في حين يرى خصوم هذا الموقف أن الفكر الغربي لا يخلو من جوانب إنسانية كونية، ومن ثمة، يمكن الاستفادة من هذا الجانب، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن هناك قضايا ومشكلات يشترك فيها الفكر الإسلامي مع الفكر الغربي مثل مسألة الهيمنة الذكورية مثلا. وبالتالي، فلا ضير من استعارة بعض مفاهيم الفكر الغربي ومقولاته التي هي مكتسبات إنسانية وإسقاطها على الواقع العربي والإسلامي بعد تطويعها وتأصيلها حتى تتماشى مع السياق العربي والإسلامي، فهذه العملية ممكنة ومشروعة، فكما أن الفلسفة الإسلامية الكلاسيكية استفادت من التراث الفلسفي اليوناني بعد أن عملت على التوفيق بينه وبين الدين الإسلامي، وكما أن الفكر الغربي استفاد هو الآخر من الحضارة الإسلامية ما مكنه من النهضة، يمكن للفكر الاسلامي والعربي المعاصر الاستفادة من الفكر الغربي. لأن العبرة في النهاية بالنتائج، بمعنى كيف يمكن أن نستفيد من هذا الفكر في تغيير واقعنا المتردي وتجاوز تخلفنا وانحطاطنا شريطة ألا يتعارض ذلك مع مقومات هويتنا وثوابتنا، وهو ما سعت بحق إلى تحقيقه النسوية العربية والإسلامية، مثلما تؤكد ذلك خديجة العزيزي وهي إحدى النسويات العربيات في قولها: "بعيداً عن الدعوة إلى التبعية للفكر النسوي الغربي أو الاندماج مع حركة نسوية معينة، فأنا مقتنعة بأن النظرية النسوية يجب أن تتضمن فكراً معقولاً يخدم كل النساء ويراعي خصوصيات مجتمعات كثيرة. وفيما يتعلق بالآراء عن طبيعة المرأة، أؤيد رؤية الحركة النسوية الاشتراكية لطبيعة المرأة لأنها لم تعتبر المرأة نتاج الجنوسة وحدها ولم تتجاهل تأثير الطبيعة البيولوجية على صفاتها وأوضاعها ومشكلاتها، وأنتقد اعتراض الاشتراكيات على الزواج القائم على أساس التغاير الجنسي وتشجيعهن النساء على السحاق وما يترتب عنه من مشكلات صحية ونفسية واجتماعية وديموغرافية. وفيما يتعلق بالفكر النسوي السياسي والاجتماعي والأخلاقي، أؤيد وجهة نظر المفكرات الليبراليات، أي مبدأ العقلانية ومبادئ الديموقراطية والدعوة إلى مجتمع تسود فيه الحريات المدنية والفكرية وتحقق فيه ديموقراطية الجدارة. وأعترض على الآراء الداعية إلى تخلي النساء عن وظائفهن الفيزيولوجية بحجة أن الأمومة مرهقة ومعوقة لتطور المرأة، وأؤيد وجهة نظر المفكرات اللواتي يعتبرن التناسل عملاً منتجاً. وتمشياً مع اقتناعنا بأن الفكر النسوي السياسي ينبغي أن يعمل على ترسيخ مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، أؤيد كل الحركات النسوية التي تدعو إلى مكافحة الموجة ضد المرأة والإنسان، وإلى مقاومة الأنظمة البطريركية والعرقية والامبريالية وكل أشكال الهيمنة السياسية والاقتصادية"[52].

     هذا هو الإطار النظري الذي تندرج في الحركة النسوية الإسلامية، وأما الحكم على نجاحها في هذا المسعى أو إخفاقها فهو رهين بتقييم النتائج التي حققتها هذه الحركة على مستوى الممارسة، مع ضرورة مراعاة الفروق التي تميز بين خطاب النسويات المسلمات الواحدة عن الأخرى.

 

 ---------------------

الهوامش والإحالات:

[1] ـ مجموعة من الباحثات النسويات، ثنائية الكينونة. النسوية والاختلاف الجنسي، تر. عدنان حسن، دار الحوار، سوريا، ط2، 2009، ص9.

[2] ـ من هذه الاتجاهات: النسوية السحاقية، النسوية الثقافية، النسوية البيئية، النسوية السوداء، النسوية الوجودية. أنظر في ذلك: الموجات النسوية في الفكر النسوي الغربي، مجلة الثرى الإلكترونية:   http://www.thara-sy.com، وانظر أيضا: خديجة العزيزي، الأسس الفلسفية للفكر النسوي الغربي.

[3] ـ  جل هاواي، الفلسفة النسوية، ضمن كتاب، مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين، تحرير، أوليفر ليمان، تر. مصطفى محمود محمد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ع301، مارس 2004، ينظر أيضا: خديجة العزيزي، الأسس الفلسفية للفكر النسوي الغربي، مرجع سابق.

[4] ـ وهناك موقف آخر يقول بأن مصطلح النسوية  Feminism  قد صيغ لأول مرة في العام 1895. أنظر: أنثوية العلم: العلم من منظور الفلسفة النسوية: منتديات جعلان للتربية والتعليم والموسوعات http://www.jalaan.com     

[5]  ـ الموجات النسوية في الفكر النسوي الغربي، مرجع سابق.

[6] ـ الموجات النسوية في الفكر النسوي الغربي، مرجع سابق.

[7]  ـ ميرفت حاتم، ماذا تريد النساء؟ نحو خريطة نقدية للاتجاهات المستقبلية للنسوية العربية، المستقبل العربي، ص21.

[8] ـ أنظر في هذا الموضوع: إمام  عبد الفتاح إمام، أفلاطون والمرأة، مكتبة مدبولي، ط2، 1996.وللمؤلف نفسه: أرسطو والمرأة، مكتبة مدبولي، ط1، 1996.

[9] ـ حول هذه المسألة ينظر: روجيه غارودي، في سبيل ارتقاء المرأة، ص14 وما بعدها. وكذلك: سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر، الكتاب الأول، تر. لجنة من الأساتذة، ص5، نسخة إلكترونية مصورة.

[10]  ـ كلثم الغانم، الأطر الفكرية والحدود النظرية للفكر النسوي العربي: نظرة تحليلية، المستقبل العربي، تموز / يوليو 2012، ع 401، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص12.

* ـ بل إن الأمر قد وصل ببعض رجال الدين المسيحي إلى حد عقد مؤتمر يناقش مسألة هل المرأة إنسان أم من جنس آخر، وبالنسبة للإسلام فالأمر مختلف، فهذه النظرة الدونية غير مطروحة على مستوى النص، يكفي الإشارة إلى وجود سورة في القرآن باسم "النساء"، وأما على مستوى الممارسة، فالهيمنة الذكورية مطروحة في معظم إن لم نقل كل المجتمعات الإسلامية، غير أن البعض يرى أن الإسلام لا يختلف عن الديانات الأخرى في هذه المسألة، وأن هذه الممارسات تتخذ من النص (قرآنا وسنة) مرجعية لها، متحججين ببعض الآيات والأحاديث منها، قوله عز وجل: "الرجال قوامون على النساء"، وعدم مساواة القرآن بين الرجال والنساء في مسألة الميراث، وفي مسألة الشهادة، وإمامة الصلاة، وفي القضاء...إلخ، وأما على مستوى الواقع والتاريخ فثمة شواهد كثيرة على الهيمنة الذكورية وتهميش المرأة ودونيتها في معظم إن لم نقل في كل المجتمعات العربية والإسلامية على مدى التاريخ العربي والإسلامي حتى الآن، أنظر على سبيل المثال: الدراسة السوسيولوجية التي قام بها بيار بورديو على مجتمع القبائل بالجزائر، في كتابه الهيمنة الذكورية، الذي كشف بالأدلة العلمية على وجود هذه الهيمنة. أنظر: بيار بورديو، الهيمنة الذكورية، تر. سلمان قعفراني، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2009. وانظر في هذا الموضوع، إمام عبد الفتاح إمام، أفلاطون والمرأة، مرجع سابق، ص5 وما بعدها.

[11] ـ أنثوية العلم: العلم من منظور الفلسفة النسوية: مرجع سابق.

[12] ـ يمنى طريف الخولي، مقدمة كتاب: ليندا جين شيفرد، أنثوية العلم ـ العلم من منظور الفلسفة النسوية، تر. يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، الكويت، ع306، 2004، ص11.

[13]  ـ ثنائية الكينونة، مرجع سابق، ص10.

[14] ـ جل هاواي، الفلسفة النسوية، مرجع سابق، ص ص183 ـ 184.

* ـ يمثل كتاب ليندا جين الموسوم بـ "أنثوية العلم" نموذجا لما يسمى بـالإبستمولوجيا أو فلسفة العلوم النسوية.

[15] ـ آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، مرجع سابق، ص311.

[16] ـ في الواقع إننا نجد هنا اختلافا بين فلاسفة النسوية، موقف يقول بأن النساء ساهمن في إنجاز الحضارة دوما جنبا إلى جنب مع الرجال، من خلال مختلف الأعمال التي قمن بها بما في ذلك أعمال البيت وخدمة الرجال التي لولاها لما أنجز الرجال شيئا، ولكن النظام الذكوري المهيمن أبخسهن حقهن في هذا الانجاز ولم يعترف بهن كما لم يعترف بعمل العبيد، والموقف الثاني، يؤكد الأطروحة الذكورية القائلة بأن الحضارة الإنسانية هي نتاج العقل الذكوري وحده، وأن تهميش المرأة وعدم إتاحة الفرصة لها للمشاركة في هذا العمل، هو الذي أصاب الحضارة الإنسانية بمختلف الاختلالات والأزمات، ومن هنا تبدو الحاجة ملحة إلى إعادة النظر في هذه المعادلة من أجل بناء حضارة متوازنة.

** ـ يرفض البعض استخدام عبارة "عقل أنثوي"، فصفة العقل حسبهم، خاصة بالذكر وحده، وأما النساء فهن "ناقصات عقل ودين".

[17] ـ أنظر: عبد الرقيب مرزاح الوصابي، جوهر الفكر النسوي - الجذور الفلسفيًّة. الأربعاء 06 يونيو-حزيران 2012 . http://www.26sep.net/newsweekarticle.php

* ـ حول الابستمولوجيا النسوية، ينظر، ليندا جين شيفرد، أنثوية العلم، تر. يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، الكويت، ع306، 2004. وحول الأخلاق النسوية، ينظر: فرجينيا هيلد، أخلاق العناية، تر. ميشيل متياس، عالم المعرفة، الكويت، 2008. وحول اللاهوت النسوي ينظر: خالد قطب: اللاهوت النسوي وثنية جديدة، ضمن أوراق فلسفية، ع37، 2013، ص131. وحول فلسفة البيئة النسوية، ينظر: زيمرمان مايكل، الفلسفة البيئية من حقوق الحيوان إلى الأيكولوجيا الجذرية، تر. معين شفيق رومية، غالم المعرفة، الكويت، ع333، 2006. وحول الفلسفة السياسية النسوية، ينظر: يمنى طريف الخولي: مابعد الاستعمارية في الفلسفة السياسية النسوية، أوراق فلسفية، ع 37، 2013، ص5.

[18] ـ جل هاواي، مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرون، مرجع سابق، ص ص 184 ـ 185.

[19] -R.Garaudy, pour l’avenement de la femme,éd. Albin Michel,Paris,1981. وانظر مقالنا: الفلسفة النسوية عند روجيه غارودي، أوراق فلسفية، ع37،2013، ص63.

[20] ـ أنظر: آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم.

[21]  ـ أمل قرامي، النسوية الإسلامية: حركة نسوية جديدة أم إستراتيجية نسائية لنيل الحقوق؟ المستقبل العربي، تموز / يوليو 2012، ع 401، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص32

[22]  ـ المرجع نفسه، ص32.

[23]  ـ نفسه، ص32.

[24]  ميرفت حاتم، مرجع سابق، ص ص (29 ـ 30).   

[25]  ـ المرجع نفسه، ص ص (30 ـ 31).

[26]  ـ أنظر الموقع الإلكتروني: http://www.islammemo.cc/

[27]  ـ شاكر فريد حسن، الرؤية الفكرية لدى الكاتبة والباحثة المغربية فاطمة المرنيسي، http://www.tellskuf.com/

[28] ـ كلثم الغانم، الأطر الفكرية والحدود النظرية للفكر النسوي العربي: نظرة تحليلية، المستقبل العربي، مرجع سابق، ص10  

[29]  ـ ميرفت حاتم، مرجع سابق، ص20.

[30]  ـ أمل قرامي، مرجع سابق، ص ص (36 ـ 37).

[31] ـ المرجع نفسه، ص37.

[32] ـ نفسه، ص37.

[33] ـ نفسه، ص ص36 ـ37).

[34]ـ نفسه، ص38.   

[35] ـ نفسه، ص38.

[36]  ـ نفسه، ص38 ـ 39).

[37] ـ ميرفت حاتم، مرجع سابق، ص ص (30 ـ 31).

[38] ـ أمل قرامي، امرجع سابق، ص ص35 ـ 36).   

[39] ـ نفسه، ص36.

[40] ـ نفسه، ص35.

[41]  ـ  نفسه، ص 35

[42]  ـ نفسه، ص36

[43]  ـ  نفسه، ص36

[44] ـ نفسه، ص 40  وما بعدها.

[45] ـ نفسه، ص 40  وما بعدها.

[46] ـ نفسه، ص 40  وما بعدها.

[47] ـ نفسه، ص 40  وما بعدها.

[48] ـ نفسه، ص 41

[49] نفسه، ص 40  وما بعدها.

[50]  ـ نفسه، ص42

[51]  ـ نفسه، ص42

[52]  ـ سركيس أبو زيد، الأسسُ الفلسفية للفكر النسوي الغربي في ثلاثة عقود. الاربعاء 23 آب (أغسطس) 2006.

 http://www.tahawolat.com      

 

  

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة