
المرأة في الخطاب الصوفي
المؤلف : أ.د.بلحمام نجاة
المؤسسة: قسم الفلسفة، جامعة وهران2
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث : الأبعاد القيمية للتحولات الفكرية والسياسية في الجزائر، جامعة وهران2
يتميز الخطاب الصوفي في حديثه عن المرأة وعن الأنوثة في اعتباره هذه الأخيرة ليست مجرد كينونة منفردة ترتبط بشخص محدد (هو المرأة) ولكنها عبارة عن مبدأ كلي يساهم بشكل مباشر في الحياة الكلية أو الكونية، هي جوهر الحياة.
والعلاقة بالمرأة في الخطاب الصوفي الإسلامي- خاصة المتأخر منه- محكومة بنفس العناصر التي حكمت العلاقة بالألوهية والطبيعة، أهم هذه العناصر:
-الحس الجمالي والحس التراجيدي، وهذه العناصر تبدو أكثر قوة في الحب الصوفي للمرأة، فهذه الأخيرة أكثر قربا ونفاذا في شخصية الصوفي، بقدر ما كانت تفتحه أيضا على الألوهية من جهة وعلى الطبيعة من جهة أخرى، ولا تقف العلاقة بالأنثى عند هذا الحد، بل ستفتح العاشق الصوفي على عنصر الإبداع والكتابة، لذا يصعب عرض صورة المرأة عند الصوفي من أمثال ابن العربي خارج مفاهيم الطبيعة والألوهية والنزعة الايروتيكية. فقد حاول الحب الصوفي أن يخرج بصورة المرأة من حدود تصورات العديد من الفقهاء ومؤلفي الكتب الجنسانية التي كانت متداولة في الثقافة العربية الإسلامية قديما والتي اختزلت المرأة في عنصر الجنس وحاولت انطلاقا من ذلك تطويق الجسد الأنثوي بمجموعة من القيم الأخلاقية التي تقيده أكثر مما تعطيه إمكانية التفتح على الحياة.
فالمرأة في النصوص الصوفية هي المظهر الأعلى للحياة، بل هي مبدأ الحياة الإنسانية، من هنا كانت العلاقة بالمرأة تجدد العلاقة بالألوهية وبالطبيعة، أي بالحياة ومبدأ الحياة: أي الماء والحب.
إن المرأة في صورتها الوجودية الخاصة هي تكثيف للجمال الكوني وليست مجرد جسد يخضع لمنطق الرغبة الجنسية، فهي بالنسبة لجلال الدين الرومي قبس من النور الإلهي.
يصعب عند المتصوفة الفصل بين حب الالوهية وحب الطبيعة، وبين حب المرأة، فحب المرأة ليس حبا محدودا بوجودها الخاص، ولكنه يقصد استقصاء السر الغائب وراء أنوثتها، ولا يمكن أن يدرك ذلك السر إلا العاشق الصوفي الذي يجعل من الحب حركة انفتاح على كل مظاهر الكون والعالم، والتجليات الإلهية، يقول ابن العربي: "وليس في العالم المخلوق أعظم قوة من المرأة لسر لا يعرفه إلا من عرف فيم وجد العالم وبأي حركة أوجده الحق تعالى"[1].
إن حب الصوفي للمرأة ليس حبا انفعاليا، وهذا يعني أنه ليس فقط علاقة إنسانية تجمع بين شخصين فحسب، بل هو جزء من حركة ايروتيكية كونية تربط العاشق الصوفي بمجالات وجودية، و إن كانت مظاهر هذه الحركة الإيروتيكية مختلفة: فالمظهر الأسمى للحب الإلهي والطبيعي والسياحة والاغتراب الاجتماعي والافتنان بمشاهد الجمال الإلهي والطبيعي، أما المظهر الاسمي للحب الصوفي للمرأة فهو الفعل الجنسي، غير هذا الأخير لا يخضع عند الصوفية لنفس المنطق الذي يحكم التصور الفقهي والتصور الجنساني، وهو منطق العنف على الأنثى وتكريس سلطة الذكورة والنظام الاجتماعي الذي يتأسس عليها.
إن الفعل الجنسي الذي يحكم حب الصوفي للمرأة ليس مجرد حركة جسدية تخضع لإيقاعات الرغبة، إنه استجماع لعناصر الافتنان والعبادة، انه فعل مركب يجمع بين العناصر التي تشد الإنسان إلى الألوهية والطبيعة والى مبدئهما: أي الحياة والحب.
إن حب المرأة عند الصوفية المتأخرين يرتبط بنظريتهم الجمالية للكون والطبيعة، وصورة المرأة في الشعر الصوفي بقدر ما تفتح الجسور أمام الإنسان لدخول عالم الألوهية والجمال المطلق، بقدر ما تنزل به أيضا إلى الجذور البدائية للحياة: جذور الجسد والجذور الانفعالية للإنسان التي تشده إلى الطبيعة بكل مظاهرها.
إنالمرأة هي الصورة النموذجية التي يتحقق فيها الارتباط بين الألوهية والطبيعة، بين المتعة والعبادة، بين المقدس والمدنس، بين إيروتيكية الجسد وإيروتيكية المقدس.
إن الذكورة والأنوثة لا يكونان ماهيتين منفصلتين على بعضهما البعض في التصور الصوفي خلافا للكتابات الفقهية والجنسانية، إنهما فقط عنصران لجسد واحد هو الجسد الأصلي، جسد أدم، الإنسان الكامل الذي خلق في بداية النشأة.
والإحساس التراجيدي بالانفصام الوجودي للإنسان هو الذي يحرك أيضا حب الصوفي للمرأة. وما يقصده الفعل الجنسي لديه هو الالتحام بالعنصر الآخر، لأنه يمثل- داخل رمزية الايروتيكية الصوفية المعقدة- العودة إلى الحالة الأصلية للجسد البدائي الذي ليس هو جسد ذكوري خالص ولا هو أنثوي خالص، بل هو مقولة ثالثة تجمع بشكل خفي بين الذكورة والأنوثة.
إنه الجسد الذي تذوب فيه كل من الذكورة والأنوثة، وبالتالي يختفي فيه الفعل الجنسي طالما أن شرط هذا الفعل هو الانفصال، إنه الجسد البرزخي (الجسد الكامل) الذي يجمع بشكل مفارق بين خاصيتي الذكورة والأنوثة ويؤلف بينهما.
ولعل هذا الطرح- في تصور الصوفية- فعل يهدد جوهر الثقافة الاجتماعية التي تقوم على إثبات هوية الذات الفردية لكل من الذكر والأنثى كما هاتين منفصلتين كوسيلة لتثبيت العلاقات الاجتماعية بينهما، وهي في الحقيقة علاقات غير قائمة على التكافؤ، بل على مبدأ السلطة والسيطرة لقد رأى " لوي التوسير" في كتابه: الايديولوجيا والأجهزة الإيديولوجية للدولة – ضمن كتابه: مواقف-
إن مفهوم الذات الفردية هو الذي يؤسس كل إيديولوجيا اجتماعية كيفما كان تحديدها الطبقي أو الإقليمي أو الزمني[2].
إن حب الصوفية للمرأة يهدد صورة الحب الجنسي كما تحدها الثقافة الإسلامية الكلاسيكية، خصوصا الفقيهة والجنسانية، لهذا ارتبطت حركة الحب عند الصوفية المتأخرين بحركة الاغتراب الاجتماعي، هذا الربط يجعل الحب الصوفي ينتقل من كونه علاقة إنسانية يومية أو علاقة بالألوهية إلى كونه تجربة متفردة تنزع بذاتها نحو الأسطورة.
ويمثل ابن عربي روح التصوف’ كونه دائرة معارف كبرى تشمل جوهر ما وصل إليه الفكر العربي الإسلامي في القرن السابع الهجري في مجالات كثيرة: علم الكلام والفلسفة والفقه والأدب والعلوم... ويعد هذا المتصوف أهم من تحدث عن المرأة في حقل التجارب المعرفية الإنسانية’ وأيضا أهم من صاغ طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل’ فهما يشكلان محور الوجود’ وتفسير العلاقة بين الحق والخلق عند ابن عربي هو ما يؤسس لحديثه عن المرأة في مواضع كثيرة’ في (الفتوحات المكية) وفي (فصوص الحكم) خاصة في الفص السابع والعشرين. غير أن ما يمكن التأكيد عليه أن فكر ابن عربي؛ حول المرأة يتبلور من خلال علاقته بنماذج كثيرة من المرأة: نموذج المرأة الحبيبة (النظام) ونموذج المرأة الزوجة (مريم) ونموذج المرأة العابدة أو المتصوفة (رابعة العدوية).
في هذا السياق ترجم "ابن العربي" الحب للمرأة، فكثير من آرائه نجد لها التجسيد الفعلي في سيرة حياته وفي سلوكاته، وهذا هو المتصوف المتحقق، وموضوع المرأة وحبها هو ما يجسد فعلا تطابق فكر ابن العربي مع وجوده، فسيرة حياته تدل على أنه أحب النساء وتزوجهن، فقد أحب المرأة بما يقربه من الله وهو الحب الذي يكون على الصفة المذكورة سابقا والتي تمكن المرء من إدراك التجلي الإلهي فيها.
[1]- ابن العربي: الفتوحات المكية، ج 2، دار صادر ص 466.
[2]-Idiologue et Appareils idéologiques d’état in : Positions-Paris Editions sociales 1976 P 110-111.
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 12 أكتوير 2020