
الأبعاد الفلسفية للنظام التربوي عند عبد الحميد بن باديس
المؤلف : الباحث بلخضر وحيد
المؤسسة: قسم الفلسفة
مشروع : فلسفة غربية حديثة ومعاصرة، جامعة وهران2
للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
مخبر البحث :الأنساق، البنيات النماذج والممارسات، جامعة وهران2
مقدمة:
يعيش العالم العربي اليوم في ظل العولمة والثورة المعلوماتية المتدفقة أزمات متعددة، جعلته يتواجد على هامش التاريخ، بحيث تعددت واختلفت هذه الأزمات باختلاف مجالاتها، فمنها الاقتصادية، ومنها السياسية والثقافية، وحتى الاجتماعية والتربوية، هذه الأخيرة التي تعد من أهم الميادين المساهمة في رقي الدولة والالتحاق بالركب الحضاري مرهون بمدى قوة النظام التربوي ومدى اهتمام الساسة بذلك، لهذا نجد الاهتمام الكبير من الفلاسفة والمختصين بالمجال التربوي، وبالتالي فالأمة العربية مطالبة باصلاح أوضاعها المتردية وتحقيق نهضة شاملة تخرج الفرد العربي من حالة التخلف، وذلك مرتبط باصلاح التربية في الأساس.
ولعل أهم الشخصيات البارزة في الجزائر التي استطاعت أن تنتج لنا مشروع تربوي اصلاحي يستفيد منه مجتمعنا الحالي هو الشيخ عبد الحميد ابن باديس (1940_1889 ) الذي اهتم بالفلسفة التربوية وتوظيفها لاحياء حركة الوعي وبعث الهوية الجزائرية القائمة على الدين والأخلاق واللغة والوطن، بحيث تقوم هذه الفلسفة على تجاوز كل أشكال الانغلاق على ذاتها، و تؤسس لفلسفة حداثية توفيقية بين المحافظة على المبادئ والانفتاح على الآخر، وهو ماحاولنا الكشف عنه في هذه الورقة البحثية من خلال طرح المشكلات الآتية:
ماهي الأبعاد الفلسفية التي قام عليها مشروع ابن باديس التربوي ؟
وما دور التربية والتعليم في الحفاظ على الهوية الوطنية الجزائرية ؟
أولا: نشأة الشيخ ابن باديس والعوامل المؤثرة في فكره.
حياة ابن باديس
"ولد الشيخ عبد الحميد ابن باديس بمدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري في ثاني الربيعين من سنة 1307 ه الموافق لليلة الجمعة 04 ديسمبر 1889 م"([1])"وينحدر من أسرة مشهورة بالعلم والثراء والجاه، كانت منذ القديم ذات نفوذ سياسي في المغرب الإسلامي نبع منها شخصيات تاريخية لامعة منها بلكين بن زيري(ت 984م) والمضر بن باديس (ت1061م) الذي كان ابن باديس كثيرا ما يفتخر به"([2])، لأنه عمل على محاربة البدع والضلالات بكل الطرق.
" تربى الشيخ ابن باديس تربية إسلامية أصيلة ساهمت فيها أسرته، خاصة والده محمد بن المصطفى، وأمه زهيرة بنت جلول التي كانت هي الأخرى تنتمي إلى أسرة شريفة عرفت بنسبها ومكانتها في قسنطينة"([3])، وقد عرف على ابن باديس دفاعه المستميت على الدين الإسلامي الحنيف، وعن اللّغة العربية الشريفة، وعن الوطن الجزائري، لذا فقد ذاع صيته وعمّت شهرته الوطن العربي كافة.
توفي ابن باديس مساء يوم الثلاثاء 08 ربيع الأول سنة 1359ه، الموافق ليوم 16 أفريل 1940م، متأثرا بمرضه، ودفن رحمة الله عليه في مقبرة آل باديس بقسنطينة.
العوامل الثقافية والدينية المؤثرة في فكر ابن باديس
أ. الحالة الثقافية والفكرية في الجزائر قبل الاحتلال.
عرفت الجزائر في هذه الفترة ازدهارا فكريا وثقافيا غير مسبوق، وهو ما انعكس في انتشار كبير للمدارس والمعاهد والزوايا في شتى ربوع الجزائر، خصوصا في مدينة قسنطينة والجزائر، وتلمسان، وكذا بلاد ميزاب في الجنوب الجزائري، حيث كان يقوم على هذه المراكز التعليمية شيوخ وعلماء يشهد لهم بلعوِّ مكانتهم ورسوخ علمهم، "وكان من نتائج هذا الانتشار الواسع لمراكز التربية والتعليم أن أصبحت نسبة المتعلّمين في الجزائر تفوق نسبة المتعلّمين في فرنسا، فقد كتب الجنرال فالز سنة 1834م بأن كل العرب (الجزائريين) تقريبا يعرفون القراءة والكتابة، حيث أن هناك مدرستين في كل قرية…"([4]) ناهيك عن الزوايا ومراكز التعليم الأخرى التي أثبتت انتشار الوعي لدى الشعب الجزائري، وازدهار العلم والمعرفة إلى درجة كبيرة لم تدركها حتى الدول الأوروبية، وقد كتب الرحّالة الألماني فيلهم شيمبر الذي زار الجزائر في شهر ديسمبر 1831 يقول" لقد بحثت قصدا عن عربي واحد في الجزائر يجهل القراءة والكتابة، غير أني لم أعثر عليه، في حين أني وجدت ذلك في بلدان جنوب أوروبا فقلّما يصادف المرء هناك من يستطيع القراءة من بين أفراد الشعب"([5])، ومثال الأعداء هذا خير دليل على المكانة المرموقة للجزائريين أقطاب المغرب في خدمة العلوم العربية والاسلامية، أين كانت تمثّل قبلة تشدّ إليها الرّحال في طلب العلم قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر.
ب. الحالة الثقافية والفكرية في الجزائر أثناء الاحتلال:
إن الاحتلال الفرنسي للجزائر الذي بدأ عام 1830م بعد حصار لمدة ثلاث سنوات، والذي دام حوالي مئة واثنين وثلاثين سنة، لم يقتصر على الجوانب العسكرية والاقتصادية فقط، "بل كانت المقاصد الدينية والعداوة للإسلام محرّكة لهذا الاحتلال وظاهرة فيه، وفي التقرير الذي قدّمه وزير الحربية إلى مجلس الوزراء الفرنسي في 14/ 10 /1827م قال فيه: " من الممكن ولو مع مضي الوقت أن يكون لنا الشرف أن نمدنهم، وذلك بجعلهم مسيحيين"([6])بمعنى أن هدف الفرنسيين الأساسي من احتلال الجزائر هو طمس الهوية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، والتمكين للثقافة النصرانية الغربية، وبالتالي رفع الصليب وخفض الهلال.
وقد اعتمد الفرنسيون في مشروعهم هذا على ما يلي:
1- مصادرة الأوقاف الاسلامية :
لقد كان التعليم قائم على مردود الأوقاف في تأدية رسالته، بحيث كانت هذه الأملاك موقوفة من طرف أصحابها للخدمات الخيرية المتمثلة في المشاريع التربوية كالمدارس والمساجد والزوايا، وكان المستعمر على دراية تامة بخطورة ذلك على وجوده، وأنه لا بقاء له إلا بامتلاكه ووضع يده على الأوقاف ليقطع بذلك الحياة الدينية والثقافية على الشعب الجزائري، وقد ورد في تقرير اللجنة الاستطلاعية التي بعث بها ملك فرنسا إلى الجزائر يوم 07/ 07 / 1833م ما يلي"ضممنا إلى أملاك الدولة سائر العقارات التي كانت من أملاك الأوقاف، واستولينا على أملاك طبقة من السكان، كما تعهّدنا برعايتها وحمايتها"([7]) .
2- التضييق على التعليم العربي:
منذ أن حل المستعمر الفرنسي بالجزائر وهو مدرك لخطورة الرسالة التي تؤديها المساجد ومراكز التعليم المختلفة في الحفاظ على هوية الأمة وشخصيتها، بحيث كانت مصدرا لإعداد النخب والمصلحين، لذلك عمدت على إخماد "العلوم والمعارف تحت أنقاض المساجد والكتاتيب والزوايا التي دمّرت فلم يبقى منها سوى جمرات ضئيلة في بعض الكتاتيب"([8])، وتم تحويل الكثير من المساجد إلى كنائس، على غرار مسجد كتشاوة بالعاصمة، ومسجد حسن باي بقسنطينة، بالإضافة إلى حرق كم هائل من المكاتب المهمّة التي تظم نوادر المخطوطات والمؤلّفات، كمكتبة الأمير عبد القادر بمدينة تاقدامت في 10 ماي 1843م.
ثانيا: المنهج التربوي عند ابن باديس.
1 _مفهوم التربية والتعليم .
أ_تعريف التربية:
"هي تبليغ الشيء الى كماله، أو هي كما يقول المحدثون تنمية الوظائف النفسية بالتمرين حتى تبلغ كمالها شيئا فشيئا، حتى تقول: ربيت الولد، اذا قويت ملكاته، ونميت قدراته وهذبت سلوكه، حتى يصبح صالحا للحياة في بيئة معينة، وتقول ترب الرجل اذا أحكمته التجارب، وأنشأ نفسه بنفسه، ومن شروط التربية الصحيحة أن تنمي شخصية الطفل من الناحية الجسمية والعقلية والخلقية، حتى يصبح قادرا على مؤالفة الطبيعة"، أوهي "مسار يقوم على تطور الوظيفة أو عدة وظائف تطورا تدريجيا بالتدريب وعلى تجويدها وانتقادها" .
ب _تعريف التعليم:
هو "التدريس وهو مقابل للتعلم تقول: علمته العلم فتعلم، ويشترط في التعليم توفير الشروط التي تسهل طلب العلم على الطالب داخل المدرسة أوخارجها، والتعليم أخص من التربية، لأن التربية تشمل نقل المعلومات الى الطالب مع العناية بتبديل صفاته وتهذيب أخلاقه، والتعليم لايشمل الا نقل المعلومات بطرق مختلفة، ومفوم التعليم متضمن مفهوم الحاجة الى المعلم"، وعن طريق "التعليم يحقق الفرد كفاءته ونموه الفردي، أو هو العملية المقصودة التي تؤدي بواسطة مؤسسات أنشئت خصيصا لهذا الغرض، ويقودها أفراد أختيروا ودربوا للقيام بهذه العملية، بهدف الحصول على المعرفة واكتساب المهارة وتنمية قدرات وطاقات خاصة" .
2_منهج ابن باديس في التربية والتعليم:
يعتمد ابن باديس في مهمته التربوية على منهج متكامل قائم على ضرورة المزاوجة بين الجانب النظري والتطبيقي من أجل بناء شخصية متكاملة، أما الجانب النظري فيتمثل في تربية أبناء المسلمين وبناتهم تربية اسلامية قائمة على ضرورة المحافظة على دينهم وشخصيتهم ولغتهم، أما الجانب العملي أوالتطبيقي فيتجسد في تعليمهم الصنائع والحرف، وتدريبهم على المهارات اليدوية، بالاضافة الى تعويدهم على الأعمال الخيرية التي تعود بالنفع عليهم وعلى الأمة أجمع كالأعمال التطوعية، فالتربية من منظور ابن باديس هي "سعي متواصل الى تحقيق مانستطيع من كمال في حياتنا، أي أن العمل التربوي ينبغي أن يستهدف ترقية أفكارنا واثراء خبراتنا واذكاء وعينا، وتهذيب سلوكنا، وتقوية ارادتنا ليحقق في ذواتنا وفي مجتمعنا مانتطلع اليه من قوة ورقي" ، ولكي يتحقق للانسان هذا التكامل على أرض الواقع، يجب أن يسموا العمل التربوي ويرتقي الى مستوى خدمة الانسانية في جميع شعوبها، باعتبار أن التربية ليست حكر قومي كما يعتقد البعض، بل هي امتداد كوني وانساني، ويؤكد ابن باديس أن حياة الفرد مبنية على الارادة والفكر والعمل، وفي ذلك يقول "حياة الانسان من بدايتها الى نهايتها مبنية على هذه الأركان الثلاثة: الارادة، الفكر، والعمل، وهذه الثلاثة متوقفة على ثلاثة أخرى لابد منها، فالعمل متوقف على البدن، والفكر متوقف على العقل، والارادة متوقفة على الخلق، فالتفكير الصحيح من العقل الصحيح، والارادة القوية من الخلق المتين، والعمل المفيد من البدن السليم، فلهذا كان الانسان مأمور بالمحافظة على هذه الثلاثة: عقليه، خلقه، وبدنه، ودفع المضار عنها"، وبالتالي فالتربية الحقة حسب ابن باديس هي التي تخص بالعناية العقل، والوجدان، والنفس، والبدن، والسلوك، وجميع الأبعاد المشكلة لشخصية الانسان.
ثالثا: الأبعاد الفلسفية للنظام التربوي عند ابن باديس:
قام الفكر التربوي عند ابن باديس على أبعاد فلسفية، اعتمد فيها على الايمان المطلق بتكوين عقل الفرد، واعتباره أساسا للمجتمع الصالح، حيث عكف في دروسه على " أساس الاتصال المباشر بتلاميذه وتكوين علاقات فردية، يستشف من خلالها روح الفرد، ويتمكن من التأثير فيه، والجدير بالذكر أن ابن باديس قد استمد فلسفته التربوية من طبيعة المجتمع الجزائري "، وقد أشار في ذلك الى أهمية التربية الاسلامية والعقيدة في تكوين الفرد كأساس للنهوض بالمجتمع.
ومن هنا فان فلسفة التربية عند ابن باديس قامت على أساس الاستثمار في العقل البشري، لأن صلاح المجتمع مرتبط بصلاح الفرد، وصلاح الفرد مرتبط بصلاح المجتمع، لذلك يؤكد يؤكد ابن باديس على ضرورة هدم كل الأفكار الغربية الدخيلة على المجتمع الجزائري، والمخالفة لعاداته ومقوماته، وعليه فان اصلاح ابن باديس التربوي هو اصلاح ذاتي داخلي يمس جميع أبعاد الانسان السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية.
ويولي ابن باديس أهمية بالغة للعلم والمدرسة على حساب العمل. فمن دخل العمل من غير علم لم يسلم من الضلال، وبذلك فهو يجعل من العامل النظري المتعلق بالعلم منطلقا أساسيا له، نحو الوصول الى الهدف النفعي المتعلق بممارسة التجارة والصناعة والفلاحة، وكأن ابن باديس يؤسس لمرحلة المجتمع العلمي المبني على العقلانية لا المصادفة والتقليد، وهو مسعى الطريقة التربوية المعاصرة المتمثلة في المقاربة بالكفاءات.
كما يهدف ابن باديس في فلسفته التربوية هذه الى الانفتاح على الآخر، وخدمة الانسانية بشكل العام، فهو يرفض الانغلاق على الذات، واقصاء الآخر لأن خدمة الوطن ومحبته هي خدمة ومحبة للانسانية جمعاء، والتوصل الى هذه الدائرة الانسانية الواسعة يحتاج الى واسطة متمثلة في جملة من الوسائل التي تحقق هذه الخدمة، ويعتقد أن غياب الأخلاق ناتج عن عدم فهمنا الاسلام، وعن سوء التربية داخل المجتمع، وهي الفكرة نفسها التي نلتمسها عن جون ديوي الذي يقول "اذا كانت موازين الأخلاق منحطة فذلك راجع الى نقص التربية التي يتلقاها الفرد في تفاعله مع بيئته الاجتماعية"، وبالتالي فان التربية هي العامل الأساسي الذي يضبط سلوك الفرد في المجتمع، وماذهب اليه ابن باديس ذهب اليه أيضا أيضا حكيم الصين (كونفوشيوس) الذي أعطي للتربية الخلقية عن طريق التعليم مكانة رفيعة، وذلك لما قرر أنه اذا أردنا نشر خير الفضائل بين البشر، وجب فعل ذلك على مستوى الوطن أولا، وكذلك الفيلسوف الألماني كانط الذي نادى بالعالمية في كتابه (مشروع السلام الدائم) سنة 1955، وقرر فيه أن كل أمة في العالم لها الحق في تقرير المصير، وأنه لايجوز لأية دولة أن تتدخل في نظام أو حكم دولة أخرى".
وقد كان ابن باديس يتوجه بالنصح لمعلمي جمعية العلماء المسلمين بضرورة السؤال عند الحوار والمناقشة، كي لايكون المتعلم مجرد آلة صماء تستقبل كل مايملى عليها دون تساؤل واستفسار، وهذا مانلمسه عند جون ديوي الذي يؤكد الى ذلك قائلا " من دون وجود سؤال ما أو شك ماثل في العقل يكون حدوث الانتباه مستحيلا...فاذا لم توجد قوة جاذبة أصلية في المادة فحينئذ اما أن يحاول المعلم حسب مزاجه وتدريبه وتقاليد المدرسة وتوقعاتها أن يحيط المادة بجاذبية خارجية، وذلك بأن يفرض أمرا ويقدم رشوة ليجعل الدرس شيقا للمحافظة على الانتباه، أو أن يلجأ الى التخويف كالتهديد بالرسوب" .
وما يمكن استنتاجه أن ابن باديس يمتلك بالفعل مشروعا تربويا متكاملا قائم على أبعاد وأسس فلسفية انسانية وكونية، وذلك باعتراف فلاسفة الغرب ومفكريهم، حيث يذكر "الفيلسوف الكندي أندري درليك، الذي ناقش أطروحة الدكتوراه بكندا حول عبد الحميد ابن باديس، أن النظام التربوي عنده يكتسي طابع فلسفي عقلاني، ويقول في ذلك " ان اهتمامات ابن باديس امتدت من النواحي الدينية الى الشؤون السياسية، ولمس تفكيره الأمور الاجتماعية، والثقافية، لقد عبر عن أرائه حول مسألة الحضارة للجزائريين وللبشرية أجمع" .
اذن فابن باديس كانت له فلسفة تربوية قائمة على تكوين الفرد الجزائري وتنمية قدراته العقلية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية لتكريس العدالة والانسانية، وقد جعل ابن باديس من الوعي الفلسفي المرتبط بالتربية أساسا لتصحيح العقائد وتقويم الأخلاق من أجل اعداد جيل قادر على مواجهة كل المخاطر، وقد أكد المفكر الفرنسي روجي غارودي على الدور الكبير الذي قام به ابن باديس رفقة زميله الابراهيمي في الحفاظ على المقومات الوطنية وجعلها أساسا للتربية بقوله "كان الشيخ الابراهيمي، مع الشيخ ابن باديس روح ثورة ثقافية حقيقية في الجزائر جعلت بالامكان عام 1962،تحرير الشعب الجزائري من مئة وثلاثين عاما من الضياع واستعادة هويته العربية الاسلامية"
رابعا:دور التربية والتعليم في الحفاظ على الهوية الوطنية الجزائرية.
لقد "استمدّ ابن باديس فلسفته التربوية من خصوصيات المجتمع الجزائري بشكل خاص، ومن الفكر الإسلامي بشكل عام، وقد قامت تجربته التربوية على استيعاب دقيق لوضعية الجزائر المحتلة، منطلقا من تأمين الأرضية الخصبة للمواجهة المطلوبة التي أفرزها الاستعمار، والمتمثلة في المؤامرة ضد الهوية الوطنية"([9])، القائمة على الفرنسة والتمييز العرقي، باعتبار أن التصدي لهذه المؤامرة لا يكون إلا عبر وسيلة التربية والتعليم التي تهدف إلى نشر الأخلاق الفاضلة، والمعارف العربية والقيم الروحية والدينية من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية، وإنقاذها من المخاطر التي تهدّدها، وبغرض تحقيق نهضة جديدة وتقدّم صحيح من خلال تكوين رجال ونساء ينهضون بالأمّة ويحرّرونها من الإستدمار.
وكانت مهمّة ابن باديس التربوية والتعليمية توعوية بعيدة عن السياسة في ظاهرها وهو ما تجلى بوضوح في المادة الرابعة لجمعية التربية والتعليم الإسلامية بقوله: "بما أن مقصد الجمعية هو التربية والتعليم لا غير، فإنها تحرّم على نفسها الخوض في المسائل السياسية والاختلافات الحزبية والمذهبية، والشخصية بأيّ وجه من الوجوه"([10])، وبالتالي فالمهمّة التربوية تبدوا مقرونة بالمهمّات الأخرى خاصة منها الثقافية والاجتماعية.
وقد لعبت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين دورا كبيرا لا يمكن إنكاره في مجال التربية والتعليم، حيث تمكنّت في ظرف قصير من أن تصبح منظمة جماهيرية لها أتباع وأنصار من كل ربوع الوطن، ولها مساجد ومراكز تعليم استطاعت من خلالها توحيد البلاد فكريا وروحيّا،"ولعلّ الجمعية قد كانت أول المنظمات التي كسرت الحدود الجهوية، وذلك بتعيينها للمعلّمين خارج مناطقهم الأصلية، وتوجيه من كان منهم في شرق البلاد إلى غربها"([11]) وهو الذي طبّق على قادة الثورة، وبذلك فقد شكّلت جمعية العلماء المسلمين وطن آخر هو الوطن الأصح الذي ينتسب إليه أبناء الشعب، ليس الوطن الذي صوّرته فرنسا وأتباعها، وقد عبّر عن هذا المؤرخ أبو القاسم سعد الله بقوله" إن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين اهتمت بالإنسان الجزائري، فجعلته هو الهدف في كل تحرّكاته، خاطبت عقله بالعلم والإصلاح والوطنية، وخاطبت عاطفته بالدّين والخطابة والتاريخ، وأنشأت لذلك جمهور من الدعاة والخطباء والمؤرخين والصحفيين والشعراء والمعلّمين، ووفّرت لهم مراكز تمثلت في المساجد والمدارس والنوادي والصخف والكتب، فكانت جمعية العلماء من الناحية الفكرية على الأقل عبارة عن دولة داخل دولة، فكان العاملون فيها جنودا في معركة وراءها إذا كسبوها والنّصر والعزّة للوطن والإسلام والعروبة"([12])
وقد مضى ابن باديس في مهمته التربوية هذه إلى اعتماد منهج متكامل قائم على ضرورة المزاوجة بين الجانب النظري والتطبيقي من أجل شخصية متكاملة، أما الجانب النظري فيتمثل في "تربية أبناء المسلمين وبناتهم تربية إسلامية، بالمحافظة على دينهم ولغتهم وشخصيتهم"([13])، "ومن الوجهة العملية أو التطبيقية تعليمهم الحرف والصنائع، أي إكسابهم القدرة على توظيف المعارف المكتسبة وتطبيق النظريات، وتدريبهم على المهارات اليدوية"([14])، بالإضافة على تعويدهم على الأعمال الخيّرية التي تعود بالنّفع عليهم وعلى أبنائهم كالأعمال التطوعية.
الخاتمة:
يمكن القول في النهاية أن طريقة ابن باديس التربوية قد قامت على أسس فلسفية في جانبها النظري والتطبيقي من خلال احياء حركة الوعي وبعث الهوية والمناداة بالثبات على الهوية والتطلع الى ماوصلت اليه الثقافات الأخرى، وبالتالي فان ابن باديس يسعى من وراء فلسفته التربوية هذه الى تجاوز النظرة التي تحصر أهداف التربية والتعليم في الاستجابة للحاجات الآنية الى التأكيد على استشراف المستقبل وتمكين الأمة من استعادة دورها وتبوأ مكانتها بين الأمم الراقية، ولم يقتصر منهج ابن باديس التربوي في التركيز على حق المسلمين في تعلم دينهم ولغتهم فقط، بل يفرض على وجه الخصوص الانجاهات والعلوم العصرية التي انصرف عنها المسلمون في القرون المتأخرة .
([1])مصطفى محمّد حميداتو: عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية، ط1، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، 1997م، ص 61.
([2])حمدي لكحل: مشروع ابن باديس الإصلاحي بين المحافظة على القيم والتّفتّح على الآخر، مجلّة دراسات إنسانية، جامعة مستغانم، الجزائر، 2015م، ص 81.
([3])حمدي لكحل: مشروع ابن باديس الإصلاحي بين المحافظة على القيم والتّفتّح على الآخر، المرجع السابق، ص 82.
([4])مصطفى محمد حميداتو: عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية، المرجع السابق، ص 46.
([6])مركز البحوث والدّراسات: التجربة الدعويّة للشيخ عبد الحميد ابن باديس، مكتبة الملك فهد، الرّياض، 1430ه،ص12.
([7])مصطفى محمد حميداتو: عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية، المرجع السابق، ص 48.
([9])الدّراجي زروخي: الأبعاد الفلسفية للنظام التربوي عند جمعية العلماء المسلمين، ط1، دار صبحي، غرداية، الجزائر، 2015م، ص44.
([10])عمّار الطالبي: آثار ابن باديس، ط3، ج2، الشركة الجزائرية، الجزائر، 1997م، ص 186.
([11])حمدي لكحل: مشروع ابن باديس الإصلاحي بين المحافظة على القيّم والتفتّح على الآخر، مرجع سابق، ص 108.
([13]) الدّراجي زروخي: الأبعاد الفلسفية للنظام التربوي عند جمعية العلماء المسلمين، مرجع سابق، ص 48.
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مسير الموقع
- انشأ بتاريخ: 16 أفريل 2021