البعد الجمالي لمفهومي: إرادة القوة والإنسان الأعلى في فلسفة نيتشه

 

 

المؤلف:الأستاذ المرحوم حمادي حميد 

المؤلف الثاني: الأستاذ بن دوخة هشام ، جامعة تلمسان

للإتصال بالمؤلف : عنوان البريد الإلكتروني عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مخبر البحث  : الفلسفة وتاريخ الزمن الحاضر، جامعة وهران2

 

 

 

 

 

 

        لم يكن نقد " نيتشه " لثقافة عصره-الرومانسية- نقدا عقيما وإنّما كان نقده نقدا بنّاءا، بمعنى أنّه أتى ببديل، من هنا كان الغرض من هذه الدراسة هو الوقوف على ملامح البديل الرومنسي الذي تصوره " نيتشه "، وهو البديل الجمالي وتقويماته البديلة عن التشاؤم الرومانسي. ولذلك تسعى هذه الدراسة من خلال   الوقوف على مفهوم إرادة القوة وكذلك مفهوم الإنسان الأعلى في فكر " نيتشه "،لتسير عكس بعض التأويلات الغير المتأنية و القراءات المتسرعة سيما الايديولوجية منها لنؤكّد أنّ هذين المفهومين: مفهومين جماليين، فإرادة القوة لا محالة تسلك مسلك إرادة الفنان، بما هي إرادة مبدعة تتفنّن بالقوة لتجميل الأشياء وتزيينها. والإنسان الأعلى، إنسان جمالي، مقبل على المغامرة فقط من أجل طلب النّازع الجمالي الحاث على الحياة، فمثله في ذلك إذن مثل إرادة القوة سعي لسلك درب الفنان الذي يؤمن بالإستيطيقا .

 

أ- إرادة القـوة (Wille Zur Macht):                                                   

1)- إرادة القـوة ضد إرادة الحياة:

يقول " نيتشه على لسان " زراداشت في إحدى  الشذرات: << لقد أفصحت إلى الحياة بسرها قائلة : إنه محكوم علي دائما أن أتفوق على ذاتي. والحقيقة أنكم تسمون هذا إرادة تناسل ودافعا إلى غاية، إلى شيء أعلى، وأبعد، وأكثر تنوعا. ولكن كل هذا شيء واحد وسر واحد، وإني أفضل الفناء على إنكار هذه الوحدة. والحق أنكم حيث تشاهدون ذبول أوراق النباتات وتساقطها، هنالك تشاهدون تضحية الحياة بنفسها من أجل القوة. ذلك أنني محتوم علي أن أكون نضالا وصيرورة وغاية ومعارضة للغايات. ويا أسفاه فإن كل من يتكهن. ما هي إرادتي، يجب أن يتكهن أيضا على أي طرق ملتوية ينبغي أن تسير هذه الإرادة . وأيا كان الشيء الذي أخلقه، ومهما يكن حبّي له كبيرا، فسرعان ما سأنقلب ضد حبّي له، هكذا تبتغي إرادتي >> (1).

في الشذرة دلالة على اكتشاف " زرادشت" أن إرادة القوة(La volonté de puissance) ليست مجرد خاصية من خصائص الحياة فحسب، بل هي ماهية  الحياة وجوهرها . فالحياة هي إرادة القوة التي تتفوق على نفسها باستمرار وبهذا يعلن " نيتشه "  على لسان " زراداشت" إيمانه المطلق " بإرادة القوة " ولكن السؤال الذي يطرح هو ما هي المسوّغات التي سوّغت لظهور فكرة " إرادة  القوة بالنسبة إلى " نيتشة "؟، ثمّ ما هي القراءة الأقرب إلى الفهم الأصيل لمفهوم إرادة القوة؟

إذا كان " شوبنهور" قد عجز عن تخطي حدود  إرادة الحياة أو حدود التشاؤم الذي انتهت إليه هذه الإدارة، فإن " نيتشه" يأخذ  بهذه الإرادة وبهذا التشاؤم الشوبنهوري " بعيدا ليتحوّل عنه، ثم ليحوّله من السلب إلى الإيجاب. فإرادة القوة تقع في طرفي نقيض مع إرادة الحياة التي ترهن خلاص الإنسان من المعاناة والشقاء والألم بخلاصه من إرادة الحياة نفسها طالما أنها في  نظر " شوبنهور " شر ملاحق للإنسان دائما أبدا ما لم يطلّق إرادة الحياة، بتطليق الرغبة واجتثاث جذور غريزة الحياة(L'instinct de vivre ) .

        إنّ عدمية إرادة الحياة التي نجح " شوبنهور" في ترويجها تعدّ في نظرنا أولى بوادر التسويغ النيتشوي لإرادة القوة التي تبدو من وجهة نظرنا كرد فعل على إرادة الحياة في صورتها النافية والمتشائمة التي رسمها لها " شوبنهور ". ذلك أنّ " إرادة القوة تفصح عن عداء صريح ضد إرادة الحياة بما هي دعوى إلى الخيار بين احتمالين اثنين، أولهما: قطع الإنسان لصلة الارتباط مع أي مغري من إغراءات الحياة.

وثانيهما: العزوف عن الحياة باعتباره السبيل الوحيد للتخلّص من ألم الحياة وشقائها. على أنّ هذين الاحتمالين تسويغ لمفهوم واحد، ألا وهو: الانتحار خير من أن يكابد الإنسان شقاء الحياة وألمها. وهكذا إذا كان " شوبنهور" قد ظلّ أسيرا في سجن التشاؤم، شاجبا بوجهه عن الحياة  معرضا عنها ومحرضا على الخلاص منها بهجرها وتطليقها ، فإنّ " نيتشه " يبقى دائما وفيا لحبّ الحياة، مخلصا لها (2). وهذا الحبّ بالذات –حب الحياة– هو الذي وجّه " نيتشه " بالاتجاه المضاد، بمعنى من إرادة الحياة إلى إرادة القوة. فما إن أخضع " نيتشه " إرادة التشاؤم " الشوبنهوري" إلى المبدأ الجينيالوجي حتى انفتحت عيناه على النقيض الايجابي، المتمثل في إرادة القـوة، بما هي إرادة الإقبال على الحياة وقبول لها واستقواء فيها.

من هنا كان رد إرادة القوة على إرادة الحياة، كون أنّ هذه الأخيرة إرادة نفي للحياة قامت أساسا من  اجل تكريس مثل عليا : (الخلاص، التشاؤم، الشفقة...) وغايتها في ذلك واحدة وهي أن الحياة أكذوبة. وبالتالي كانت إرادة الحياة بالدرجة الأولى إرادة تنبيه الإنسان إلى عبثية الحياة (L'absurdité de la vie) ، وإرادة الانسحاب من الحياة وقتلها بالزهد أو بالمثال الزهدي(L'idéal ascétique)  بوصفه الخلاص النهائي من عبثية الحياة.

        إن ثقافة الإرادة فيما يرى " نيتشه " لا تعترف بفصل الإرادة عن الحياة، بل إن واحدا منهما لا يقوم بإلغاء الآخر، في حين أن الإرادة الشوبنهورية تعترف بالإرادة كموجه للحياة، ثم تضل عن طريقها المستقيم حينما ترهن خلاص الإرادة برفعها عن عالم الحياة، ذلك أنّ الإرادة بما هي مستقلة عن الحياة، وبما هي مخطئة للحياة  قبليا كما هو حالها مع " شوبنهور" تكشف في نظر " نيتشه " الحقيقة ضد باطل الأباطيل: ذم الحياة وتحقيرها وتبخيسها.

        إن إرادة القوة في نظرنا مشروع قام من أجل تصويب الخطأ، من أجل أن يلغي انقياد الحياة بالخطأ، ومن أجل أن يحيي الثقافة التراجيدية من جديد، بما هي حكمة " ديونيزوسية "، وإرادة حياة لا بالمعنى " الشوبنهوري" وإنما بالمعنى الديونيزوسي الذي يبارك كل ما في الحياة ويجعله عيدا وبهجة. فلا مكانة لقول الخطيئة والتشاؤم والزهد في الحياة، وإنما ثمة قول للإقبال على الحياة فقط بملىء ما فيها: شقائها ونعيمها، فرحها وقرحها، أو ليست الثقافة التراجيدية، وحصرا الثقافة  الديونيزوسية ممارسة للذة في الألم؟!

وهكذا انبثقت إرادة القوة من ذلك التعارض بين الرفض والقبول: رفض الحياة مع إرادة الحياة، وقبول الحياة مع إرادة القوة وحول ذلك التعارض بين الرفض والقبول تجلت القوة كماهية أصيلة للإرادة وللحياة على حد السواء أمام " نيتشه "، فوحدها القوّة في نظر " نيتشه" تأكيد ايجابي على الحياة : << وبقدر ما تكون الحياة قوية، بقدر ما يكون العالم الموجود أكثر خصوبة>> 3).

 

2)- إرادة الاقتدار بوصفها جمالا:

يقول " لوك فيري "  Luc Ferry وهو واحـد من نخبة الفلاسفة المعاصرين الفرنسيين المهتمين بفلسفة " نيتشه "، في كتابه "الإنسان الجمالي " (Homo Aestheticus):  << بالنسبة لنيتشه، يتمظهر الفن بوصفه استعراضا لما هو حقيقي من خلال ارادة القوة "4. يخضع الفن في نظر " نيتشه " كما يؤكّـد على ذلك " لوك فيري" إلى إرادة الإقتدار التي تكمن في صلب الفنان من حيث هي نازع فنيّ. فثمة إذن نازع إرادة الإقتدار وهو نفسه النّازع الجمالي الذي يدفع الفنان إلى تصوير الطبيعة تصويرا جماليا، ولئن تأمّلنا هذا النّازع الجمالي الذي يدفع الفنان إلى تصوير الطبيعة تصويرا جماليا لأمكننا أن نقول فيه: إنّه نازع إرادة الإقتدار نفسه.  

        إنّه لمن القـوّة بمكان بحيث يتحكّم الفن في كلّ أنشطة الحواس والذّهن. وهو دافع تقف وراءه إرادة الإقتدار التي يقوم الإنسان الفنّان بفضلها بقلب أنسجة وخلايا المفاهيم، معوضا إياها باستعارات جديدة ومجازات، حاملا نفسه بإستمرار على أن يعطي العالم الذي يتبدى أمام أعين الإنسان المتأمل صبغة شديدة الإختلاف، دائمة التجدييد، مليئة سحرا، شبيهة بالحلم. فمن شأننا أن نحيا تحت سحر الفن وإبداع الفنان في وهم دائم، أي في عالم من الإستعارات والكنايات (Les métaphores)  لا في عالم من الوقائع. وإنّ لفي ذلك إختلاف جوهري بين الفيلسوف وبين الفنان كما يؤكّد على ذلك " ماتيو كسلر " Mathieu Kessler في قوله:    << ينبغي على الفيلسوف وصف العالم في حقيقته، بينما يتحتم على الفنان إبداع واقع لا يمت بصلة مع الواقع. الفنان مجبر على تصور العالم بخلاف ما هو عليه، أمّا الفيلسوف، فمجبر التفكير داخل انساق عقله. وحده الفنان قادر أن يطلق العنان لجنونه كي يحرّر خياله. "(5).

        إنّ الفنان لهو من يقفز على الواقع ويعتقد أن الشيء الجميل لا يصير جميلا إلاّ بخروجه عن المفاهيم المجردة التي تهيمن على العقل وأنّه بقدر ما يكون الشيء قويا بقدر  ما يصبح أكثر جمالا، فإرادة الجمال كما جاء على لسان " ياسبرز " :<< تعني التطوّر اللاّمحدود للأشكال: وحدها الأجمل ووحدها الأقوى>> (6).

إنّ الغريزة التي يتقوّم بها الإنسان في نظر " نيتشه " ما كانت يوما غريزة العقل أو غريزة ذهن يطمح إلى المعرفة :<< فالذّهن نفسه نتاج لجهاز كان في البدء جماليا>> (7)، إنّما الغريزة التي تسري في عروق الإنسان هي غريزة الجمال، فالعين مشدودة إلى الشكل الجميل، والأذن متعلقة بالإيقاع الجميل، وفي ذلك كله إبداع قوة فنية جمالية، ومن ثمّة فإنّ الجمال هو نشوة فـنان قـويّ، ولئن شئنا أن نعرف طبيعة الجمال فلننظر إلى مدى قوّته.

إنّ معيار الجمال بالنسبة " نيتشه " هو " إرادة القوة " ذلك أنّ الجمال دلالة على الإرادة، والإرادة في فلسفة " نيتشه " رهن القـوّة. وها هنا خطأ آخر من " شوبنهور" حينما ذهب إلى إعتبار أنّ أحد مزايا الجمال : << إماتة للإرادة وتحرّر منها >> (8)، بيد أنّ حقيقة الجمال فيما يرى " نيتشه " هي أنّها دلالة على سلامة الإرادة وعافيتها، فوراء كلّ حكم جمالي إحساس بالقوة، والقوّة وحدها تحدد استعمال نعت " الجميل".

إنّ الإنسان الجمالي، لهو إنسان إرادة القوة بامتياز، ذلك أن في إبداعه للجميل إستقواء وإستقدار يحوّل معاناة الإنسان إلى فيض حياة و وفرة قـوّة.

إنّ إرادة الإقتدار في نظرنا هي نفسها إرادة الجمال (La volonté du Beau) بالمعنى الذي يسمّيه " نيتشه " جمالا ديونيزوسيا (Beauté Dionysiaque)، شأنه أن يعكس الرؤية التراجيدية للحياة التي تتم عن قـوّة فنية هائلة، أي إرادة الاقتدار التي تثير المتعة والنشوة في الجمال.

إنّ القول عن شيء ما أنه " جميل " معناه التأكيد على قوته، فوحده الجمال دلالة على القوة، مثلما القبح دلالة على الوهن.

 

ب- الإنسان الأعلى: Umbermensech

1)- الإنسان الأعلى والحياة:

يعلن " زراداشت " عن فحوى بشارته للإنسانية قائلا: << جئت أزفّ إليكم بشارة الإنسان الأعلى...>> (9)، والممعّن النّظر في خلاصة الرسالة التي أدلى بها " زرادشت " ليجد أنّ غايته الوحيدة تنصب على تثقيف الإنسان الأعلى (Le  surhomme)  جنبا إلى جنب مع ثقافة إرادة القوة والعود الأبدي(L’éternel retour) *. وإذا كان مفهوم الإنسان الأعلى مفهوما أساسيا في فلسفة " نيتشه " عامة وفي مؤلفة " هكذا تكلّم زرادشت" خاصة، فإنّ السؤال الذي يطرح: ما هي سمات الإنسان الأعلى في فلسفة " نيتشه "، وما هو البعد الدي يتخفى وراءه هدا المفهوم؟.

        يؤكّـد " زرادشت " فور إعلانه عن نبأ الإنسان الأعلى، أنّ هذا الأخير ينتمي إلى الأرض لا إلى عالم آخر مفارق، بل إنّه يمثّل في حقيقته معنى هذه الأرض: <<الإنسان الأعلى هو معنى الأرض، فلتجعلوا إرادتكم تقول: ينبغي أن يكون الإنسان الأعلى معنى الأرض>>( Nietzsche (F),1993,p291)(10)، وبذلك يربط " نيتشه " برباط وثيق بين مفهوم " الإنسان الأعلى وبين الحياة، فالإنسان الأعلى يبارك الحياة ولا يلعنها، يثني عليها ولا يحقّرها.

        إنّ الإنسان الأعلى هو ذلك المندفع شوقا صوب الحياة، غايته في ذلك هي إضفاء الجمال على صورة الحياة ولذلك نـراه قـد نصّب نفسه عدوا ضد محقّري الحـياة  (Les contempteurs de la vie): فهو رافع  شعار " موت الإله" (Dieu est mort)، وهو محارب الوصايا القديمة مناديا بضرورة قلب القيم (Renversement des valeurs)، وهمّه الوحيد وراء ذلك إنّما هو ردّ الإعتبار للمنسيّ، للحياة باعتبارها بؤرة الوجود الأبدية وحلقة متكررة لا تعرف النهاية.

        << إنّ الإنسان الأعلى هو ذلك الإنسان الأقرب إلى الحياة >>(11) ، فليس ثمّة سوى الحياة يلهث في طلبها: حياة تستبدل بحياة إلى الأبد، موت يتلوه موت وميلاد يعقبه ميلاد، حياة في موت وموت في حياة، تلك هي حياة الإنسان الأعلى الأبدية التي ما فتئ الإنسان الأعلى يتلذذ بحبها، تلذذ عاشق منتشي يردّد تحت تأثير الهذيان: إنّما نحن نؤمن بالحياة الأبدية!.

      إنّ الإنسان الأعلى هو إنسان ما بعد المسيحية، بل إنّ ظهوره ما قام إلاّ بغية الإعلان عن موت الإله المسيحي الذي سلب براءة الحياة بإدانتها بتهمة الخطيئة. لقد بلغ الإنسان الأعلى من الوعي ما مكّـنه من كشف خدعة الإله المسيحي، فما " الذّنب " ومـا " الخطيئة " إلاّ ضرب من ضروب الافتراء والكذب، أبدعتهما الكنيسة إنتقاما من الحياة، إن هي إلاّ ضلالات ابتدعها " القس" بغية التّرهيب من الحياة، بل إنّ القس نفسه ليدرك أنّ أقاويل من هذا القبيل ما هي إلاّ الكذب بعينه (12).

        ما بقي للإنسان الأعلى مزيد من الصّبر حتى يكتم غيظه من هذه الأمور، بل كيف يمكن لقدوة الحياة بأن يطيق عدو الحياة؟!

        إنّ أفول الإنسان المسيحي صار أمرا لا بد منه، بل إن الإنسان الأعلى ليترقّب موت هذا الإنسان وموت إلهه على السواء  بلهف وشوق حتى يصلح العطب ويداوي الداء ويحارب الكذب ويحطّم الأصنام أملا في شفاء الحياة من لذغة أعدائها.

        إنّ ما عبد تحت إسم الإله المسيحي ما كان إلها بالمعنى الحق: << وإنّما إلها على مقاس "بولس">> (13)، قاسه بمقياس الشّفقة والخطيئة والذّنب، وبالجملة إنّه الجريمة ضدّ الحياة، ولا غرابة إذن في موت هذا الإله: << وذلك لا يعني موت الأمر الإلهي أو موت الشأن المقدّس [...] إنّما الإله الذي وصفه نيتشه بالموت هو إله بولس، إله الضّعفاء والنّاقمين والحاقدين على الحياة والأقوياء>> (14)

        إنّ موت الإله الذي نادى بضرورته " نيتشه " ليمثل في نظرنا دعوة القضاء على أثر كانت عواقبه وخيمة، ونعني بها العدمية التي كانت المسيحية في نظر " نيتشه"، إحـدى المروّجين لها، جنبا إلى جنب مع " الأفلاطـونية " أو ليست المسحية فيما يرى " نيتشه " سوى أفلاطونية مستترة؟!، فكلا هما -الأفلاطونية – المسيحية – أثارا في نفوس الناس الحيرة والشكّ والرّيبة، وضرورة توخّي الحذر والحيطة من الحياة، كون هذه الأخيرة تمثّل في نظرهما مصدر شر ملاحق، سببه خطيئة إنسان، ما إنفكت الإنسانية تدفع ثمنها.

إنّ " زراداشت" الذي استبشر بشارة الإنسان الأعلى، ليضع هذا الأخير في طرفي نقيض مع الإنسان العدمي، ذلك أن الإنسان  الأعلى لا يرى في الحياة ظلاما ولا هما ولا حزنا، وإنما هي بالضد من ذلك في نظره : نور وفرح وغبطة.

إنّ الإنسان لا يرضى بسعادة صغرى، وذلك حال الإنسان الأعلى متعطش إلى سعادة كبرى، ينفتح بموجبها أفق حياة متجددة وأبدية، وإنّ قلبه لمفعم بحبّ هذه الحياة: (15)

هذا و تجدر بنا الإشارة إلى أنّ معنى الإنسان الأعلى لا يستوي مع معنى الإنسان النظري (Homo Theoreticus) ذلك أنّ إرادة الإنسان الأعلى هي إرادة القـوّة، بينما إرادة الإنسان النّظري هي إرادة المعرفة.

        إنّ إرادة الإنسان الأعلى تنزع نزوع الحياة، بينما تنزع إرادة المعرفـة نـزوع "الحقيقة". وها نحن أمام نقيضين: شغف بالحياة وشغف بالحقيقة(Le pathos de la vérité). ذلك أنّ الإنسان النّظري منذ أن ظهر، عرف باحثا مخلصا عن " الحقيقة " ومثال " سقراط " خير دليل على صحّة هذا القول، فمعلوم عن " سقراط " أنّه كرّس حياته من أجل المعرفة والحقيقة، بل إنّ همّه الوحيد وقضيته الأولى كانت البحث عن الحقيقة ولو على حساب الأعراف والتقاليد. وما معادلته الشهيرة : العقل = الفضيلة = السعادة إلاّ ضربا من ضروب إرادة الحقيقة.

        إنّ إرادة الحقيقة كغاية الغايات بالنسبة للإنسان النّظري إنّما تعني البحث عن عالم حق لا يعاني فيه الإنسان، بيد أنّ الإنسان الأعلى يبحث عن الحياة فقط، لأنّها وحدها الحقيقة بعينها في نظره، ولذلك نراه يطلب الحياة باستمرار وينشد العودة إليها دون انقطاع، وإنّ لسان حاله ليهتف: أهذه هي الحياة، لأعودنّ إليها من جديد!.

        إنّ الإنسان الأعلى لا يشكّ أبدا في أنّ ثمة حقيقة أخرى غير حقيقة الحياة ولذلك تراه باحثا نشطا عن كلّ درب يؤدّي إلى الحياة، بينما ترى الإنسان النّظري بالضدّ من ذلك، يزعم بوجود حقائق مفارقة للحياة، وذلك حيلة منه للفرار من الحياة، واتّقاءا منه لشرّ الحياة، ولربّما كان ذلك سبب لنسجه إستعارات يسمّيها " حقيقة "، يقول " نيتشه" في هذا الصدد: << إنّنا لا نعلم أبدا من أين تأتي غريزة** الحقيقة [...]، أن تكون حقيقي، ذلك يعني استحضار كنايات للإستعمال >>(16)،  ولذلك كانت إرادة الحقيقة، إرادة كذب على الحياة، وإرادة ضارّة بالإنسان، مثلها في ذلك مثل " إرادة العـدم" تكشف في جوهرها وفي عمقها عن تشاؤم رهيب: << وإنّ التّشاؤم لهو أولى أشكال العدمية >> (17)

        ذلك هو أهمّ ما يتّسم به الإنسان النظري، إيمانه بوجود " الحقـائق"، وهو بذلك يقع في طرفي نقيض مع الإنسان الأعلى، الذي لا يؤمن بحقيقة قطّ، اللهمّ إلاّ حقيقة الحياة، بوصفها الحقيقة الوحيدة القابلة للصّدق وما عدا ذلك فكلّه هراء وكذب.

        وبعد إذا كان الإنسان الأعلى لا يجد ضالّته في نموذج الإنسان الأخير ولا حتى في نموذج الإنسان الديني-المسيحي، وكذلك الإنسان النّظري، كما أشرنا إلى ذلك سالفا، فإنّ السؤال الذي يُطرح: ما هو النّموذج الأقرب إلى كنية الإنسان الأعلى؟.

 

  ذكرى وفاة الأستاذ حمادي حميد المصادف لــــ : 19 ديسمبر

 

 

.يتبع .../....

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة