غربة مفكر من القرن الرابع الهجري

 

 

 المؤلف:  المرحوم  أ.د. عطاء الله زرارقة

 المؤسسة: أستاذ فلسفة، جامعة الأغواط.

أول رئيس مجلس علمي لمعهد الفلسفة ( 1990-1994) بجامعة وهران

توفى يوم 11 جانفي 2010

المقال منشور بمجلة التدوين (2010/12/02)

 

 

 

 

 

 

 

 

لماذا المفكر يتذوق دائما مرارة الغربة ؟ المفكر على العموم ، لا يحده في ذلك زمان ولا يشده شده مكان ، لأنه يعيش من أجل مخاض ايجابي إبداعي غير أن هذا النوع من الغربة هو في إمكانية" الآخر" المبدع الذي يعيش هموم ذاته،  وهموم غيره، بل يمكن "للأخر " أن يسعد بهذا النمط من الغربة ومن الإبداع على حد سواء. أما وإن كان الزمن العربي بدايته كنهايته، يحق لنا أن نتوقف ونكتفي بـ"مفكر غريب " همس لنا عبر "الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية " ومن عمق القرن الرابع الهجري"برسالة الغريب " التي صور فيها المعاناة وغربة الغريب في غربته. إذن كيف نظر إلى الغريب ؟ وما هو إحساسه في ذلك ؟ لقد اختصر فاقتصر فأوجز الكلام في الغريب  وما ينطبق على الغريب

 رأي منهجي :

   لما نتعمق في اللغة العربية، في المفردة تلو المفردة، وفي المعنى بعد المعنى، لإبراز الدلالة الاصطلاحية نصطدم بصنف" الكلمات الأفكار"، فيتسع الفضاء ويضيق بنا الفهم العام، ونسبر غور أعماقنا، ونحاول الولوج إلى ما ينضح به عمق الآخر من أفكار. من هنا فقط، يمكننا اكتشاف المكابدة والمعاناة المرسومة عبر سلسلة من الأنات الزمانية، يموج من خلالها التعبير، وتتدرج الدلالة عبر درجات الوعي الإيجابي بالحياة ، ونستلهم المعنى  كل المعنى .فمن تصفح وقلب مآثر التوحيدي، الأديب الفيلسوف، المثقف ومفكر القرن الرابع الهجري، صاحب سؤال: من يكون الصديق؟ وراسم هوامل ما أشمله ابن مسكويه، ومبتهل الإشارات وما كان أنفس في الروحانيات، يدرك جيدا معنى " الكلام على الكلام صعب " ، "والإنسان أشكل علبه الإنسان ". 

     ما الذي حدث للتوحيدي في الإشارات ؟ وما الذي أعدله عن موقفه الإنساني وهو أحد الأدباء الفلاسفة الذين اهتموا بالإنسان، وبالمقولات المحركة لإنسانية الإنسان؟ كما أنه ينتمي إلى تيار الفلسفة الانتقادية الذي يعتمد " العقل... ويتخذه رائدا وهدفا....وهذا العقل الإنساني الصرف ينتج التنوع ....لبناء حكمة إنسانية هي لباب الحضارة وجوهر المدنية والعمران " (1)

  إن خطاب  التوحيدي بعد تمجيده  للعقل ، الحرية والجمال والفكاهة ورسم معالم الإنسان في مجمل مؤلفاته، اصطدم بجدار من الصمت في مخاطبة عقل الإنسان،  فلم يصرخ في وجه الزمان ، وإنما همس في أذن الإنسان يستنهضه ويذكره بتقلب المفاهيم وانعكاس القيم، وسجل له في لحظة،  الفرق بين الوعي والوعي الزائف، بين الوجود الواقعي والوجود المستلب. فمفردات التوحيدي من خلال الكتاب تدل على غربة معطوفة عن هجران ، نابعتان من هجرة شقاء إنسان زمانه ،  الشقي بنفسه وبغيره. إن التوحيدي عاش قرتا من الزمان اختبر الواقع والناس، فهجر العقل والتفكير، والنقد والفكاهة إلى عالم همس من خلاله للإنسان بمنطق الإخاء والتودد والتذكير، وابتهل فيه.

     

كتاب " الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية" :

"...إنك إن عرفت هذه اللغة، واستخرجت حالك من هذا الديوان، وحصلت مالك وعليك من هذا الحساب، أوشك أن تكون من المجلوبين إلى حظوظهم...وإن كنت عن هذه الكنايات عميا ، وعن هذه الإشارات أعجميا، طاحت بك الطوائح ، وناحت عليك النوائح ..."(2) بهذه العبارات ينظر التوحيدي إلى مضمون الكتاب، بل ينصح بقراءته ومعرفته ، لأن من يعرفه بجد فيه أنه لا حرف ، ولا كلمة ، ولا سمة ولا علامة ، ولا اسم ولا رسم ، ولا ألف ولا باء إلا وفي مضمونه آية تدل على سر مطوي..."(3) وذلك ليس في الإشارات فقط وإنما في مجمل كتبه. إن ما يميز التوحيدي أنه كان قارئا لثقافة عصره وفق منهج قائم على رؤية إنسانية، وعلى مزج الفكرة بالسلوك ومزج الاثنين بواقع الإنسان. كان وبشهادة كل من اعتنى بتراثه نموذجا فريداً جمع بين الاختصاص والموسوعية في الإلمام بثقافة عصره لقد "أمضى الرجل حياته الطويلة متعلماً ومعلماً. وانصرف إلى الثقافة بروح المتعبد المزهد.  فكان العلم على اختلاف فنونه هدف حياته، و شاغل أيامه ولياليه و سلوه عمره. وكان ذا قابلية نادرة على الاختلاط بشتى البيئات الاجتماعية. فعاشر الوزراء والكتاب والفلاسفة والفقهاء، والنحويين والأدباء والمتصوفة والزهاد والمترفين والفقراء وحضر حلقات الدرس والذكر، كما حضر حفلات اللهو والسهر، وقد وصف ذلك كله أدق وصف وأمتعه ورسم الملامح وتصوير المصائب تصويراً ساخرا"(4).وفي تنوع ثقافة التوحيدي وشموليتها، وفي انفتاحه على الطبقات الاجتماعية والبيئات المختلفة، وفي حضوره لمجالس العلمية باختلاف درجاتها، تنتفي النظرة التي تصفه بالغريب، وبالمغترب اجتماعيا. بل كان يعيش ما يسمى الاستلاب المعرفي، أي أن الوعي الثقافي عنده لم يكن وعياً مسطحا بل وعيا اصطدم بواقع اجتماعي مكدس حال دون تحقيق ما يأمل. هل فشل في تمرير أفكار ؟ لقد تسربت أفكاره على الرغم من جدار الأفكار الذي كان معاكساً لأفكاره، لقد عانى من أجل الفكرة، تململ في شموخ الإنسان وظهر في نظر الآخرين الفقير الذي تقطعت به السبل.

إن تركيبة التوحيدي العقلية كانت متحررة ومتفتحة في نظرته إلى ثقافة عصره وقد قبل الاختلاف واستوعب الامتزاج ا لثقافي "ولا شك أن امتزاج كل الثقافات المتباينة في نفسه قد عمل على صبغ تفكيره بصبغة موسوعية واضحة مما أدى إلى اتسام إنتاجه الفكري بطابع تحرري متفتح لا نكاد نجد له نظيراً عند غيره من مفكري عصره"(5). بقول فيه آدم ميتز: "ربما كان أعظم كتاب النثر العربي على الإطلاق"(6).  لقد انعكس الواقع بكل ما يحمله على فكره، كما سجل إلمامه الواسع بثقافة معاصريه، وبثقافة العصور السابقة، وامتلاكه خصوصية منهجية ميزته عن غيره، تمثلت في النقد والنقد الذاتي، واختراق المجهول الفكري عن طريق السؤال المعرفي. واستنهاض الوعي عن طريق إعمال العقل، وتمجيد الفعل . عكس واقعا اجتماعيا، اختل فيه معيار العلاقات الإنسانية والاجتماعية. وانقلبت القيم والمعايير التي على أساسها يقيم السلوك ولا ريب في" أن النزعة الفضائلية المشوبة بالصوفية هي ردة فعل للانحطاط الخلقي والفساد الاجتماعي في ذلك الزمن"(7) وترجع أهمية معالجة التوحيدي، للمنهج الواقعي الذي اتبعه، وإلى النظرة النقدية للطبيعة البشرية، وللأخلاق المثالية لقد اعتبر كل الأشياء تتغير إلا الزمن والإنسان، وبهذا يدرك التوحيدي الثابت والمتغير في صيرورة الحياة، ويستشهد ببيت من الشعر:

فالدهر آخره  شبه بأوله                  ناس كناس وأيام كأيام(8)

إن كتاب الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية. يعد بحق تجربة خاصة للتوحيدي، في مقابل تجاربه في مؤلفاته الأخرى. تشعر من خطه أنه حدث للتوحيدي تحولاً نوعياً على مستوى البحث والمنهج. فهو يعقد حواراً مع الإنسان المجهول بابتهالات رمزية تحمل مسحة صوفية. ومادام الرمز عرضة للتفسيرات المختلفة فإن رموز التوحيدي خضعت لتأويلات متعددة. فمن يرى أن "الإشارات" كتاب صوفي تحول فيه التوحيدي من الفلسفة إلى العقل إلى التصوف لأنه "حين لم ترو الفلسفة في النهاية ضمأه، وعندما شعر بالعجز والغربة والحرمان ضعفت ثقته بالعقل واتجه إلى التصوف مرة أخرى مؤثرا التسليم المطلق على طريقة المتصوفة فظهر هذا الاتجاه في الإشارات الإلهية "(9). وهناك من يقيم الإشارات على أنها دعوة إلى تهذيب النفوس وتعليمها بالعبادة والطاعة ليزدادوا عرفاناً بالله والتعلق به(10). إلى من يعتبر الإشارات خلاصة تجارب التوحيدي الروحية، ويرى في هذا التوجه "اتجاه نحو الله منبع الخير والحق والجمال، والنظر إليه بعين الحق المجرد والقلب المضاء بالإيمان المطلق، والوجه الصوفي المحرق". وفي تصديره لكتاب الإشارات يقيم عبد الرحمان بدوي الكتاب بأنه يعبر "عن نفس دلفت إلى الإيمان المستسلم بعد أن عانت من الحياة أهوالاً طوالاً ففيه مرارة اليائس من الناس ومن دنيا الناس، وفيه صرخة أليمة لأمل خائب تكسرت عليه نصال الخيبة بعد الخيبة، وفيه عزوف رقيق ولكنه عميق عما يربط بالعاجلة واستدعاء متوسل لكل ما تلوح به بوارق الآجلة، وفيه شعور بهوة هائلة فغرفوها في نسيج الوجود وفيه طعم الرماد يتذوقه المرء في كل عبارة وإشارة." (11)، إنها الهجرة الروحية ، هجرة الذات العارفة ببواطن الناس ، وخبايا النفوس ، بعد الصدمة من فتور تمرير خطابه العلمي والمعرفي والأدبي ، لا لكونه لم يرق إلى تشخيص المعاناة بل لكون المتلقي لم يتشكل له بعد الوعي الكافي في هضم الأفكار التي استودعها في مجمل كتاباته الأخرى .ولو قرأنا الكتاب قراءة على ضوء كتب التوحيدي. نجد أن التوحيدي لم يكن بدعاً في هذا التوجه، فكثير من المفكرين والعلماء جنحوا إلى الهجران بالذات رغم حضورهم الجسدي.

ولكن إلى أي حد يكون كتاب الإشارات امتداد لتوجهات التوحيدي نحو معقل الغربة؟ إن التوحيدي في الإشارات وإن اختلف الأسلوب وتعمقت اللغة عن لغة وأساليب مؤلفاته الأخرى. فقد مارس ما يسمى بالرجوع  إلى الذات. والشعور بنوع من الإرهاصات التي تؤسس إلى غربة بل إلى هجرة ، لأنه اصطدم كمفكر ولا كإنسان بجدار من اللاوعي. أضحت معه –في نظره- أفكاره عديمة الفائدة.

 إن عامل الزمن وتقدم العمر تجعل المفكر يتقلب بين تجربة وأخرى، ويتدحرج في مدرسة الحياة لا لتغيير أفكاره، وإنما لإيجاد وسيلة لتمريرها وبلوغ هدفها، فالتوحيدي في الإشارات يخاطب الإنسان كل الإنسان ولكن في هذه المرة يخاطب أسمى قوتين فيه العقل والقلب،  فامتزجت مخاطبته  للإنسان بتوسع دائرة اليأس منه، وضيق أفق صلاحه،  وفق حوار نفسي ومناجاة عميقة. رفض من خلالهما كل قسر أو إكراه يمارس على العقل أو الفكر ورفض كل فصل أو انفصام بين الفكر والسلوك أو بين العمل الفكري والمسار الأخلاقي العملي... "(12).

إن المقاومة والرفض جواب ، وجوابهما ، غربة طليق ، وهجرة متيم لصيق .

  مؤشران لهجرة غريب

 - المؤشر الأول:

 يتعلق الأمر بعلاقة الوعي بالفعل،  وقي هذا المعنى تستوقفنا، حادثة مؤلمة في ظاهرها معبرة عن لحظة وعي في خفاياها. هم التوحيدي بحرق كتبه، وهذه الحادثة تشكل منحى بارزاً في حياته. وكل التعليقات تفيد أن التوحيدي أقدم على هذا الفعل بسبب النكسات المتتالية جراء وضعه الاجتماعي. وهذا الرأي قريب جداً من تأويل أصل التوحيدي ذاته.  فعلى مستوى التحليل النفسي، لا نجد إشارة واحدة تدل على أنه تعرض لأزمة نفسية أو عصبية، وهذا من شأنه أن يبعد عاملاً يرجح بالدرجة الأولى أن يكون حافزاً مباشراً لكل هذا الفعل. وتبقى فرضية تبعات الوضع الاجتماعي الذي يمكن أن نقول بصددها أنها فرضية ضعيفة بالقياس إلى حجم التوحيدي، وإلى توجهه الفكري الثقافي. فلا يعقل ممن سبر غور أعماق الإنسان، وكتب في أهم عاطفة إنسانية كتاباً سماه بـ "الصداقة والصديق"، وفهم الإنسان من حيث بعده النفسي ومضمونه الأخلاقي، أن يقدم على إتلاف تراث إنساني بسبب وضع اجتماعي.

   والراجح بعد قراءة كتب التوحيدي وإدراك اتجاهه، أنه وقع في ما وقع لكثير من المفكرين سواء في عصر التوحيدي أو في اعصورما قبله أو ما بعده. إذ نجد أن في كثير من الأحيان أن الفكرة الواعية تصطدم بالتسطح الثقافي الاجتماعي. فتظل حبيسة صاحبها،  بمعنى أنه لم تتوفر الشروط النفسية الاجتماعية لتمريرها وبلوغ هدفها. وتظل الهوة كبيرة -في ظل واقع اجتماعي وثقافي معين- بين النظرية والتطبيق أي بين الفكرة وتجسيدها واقعيا. ويبدوا أنه غاب على التوحيدي، بحكم تطور درجة الوعي الاجتماعي، بأن فاعلية الفكرة يمكن أن تتجاوز معرفياً العصر الذي أنتجت فيه، وأن الأفكار الواعية ستطل خالدة، وأن تجسيدها يتأخر إلى حين.

  إذن التوحيدي لم يصرخ في وجه الزمان وإنما همس في أذن الإنسان يستنهضه ويذكره بتقلب المفاهيم وانعكاس القيم. وسجل له في لحظة، الفرق بين الوعي والوعي الزائف، بين الوجود الحقيقي المبنى على أساس نكري، وبين الوجود المستلب القائم على أساس الوهم. وحقق بهذا الفعل الثنائية الجدلية بين الفكر والوجود. ولكن بممارسة عقلانية واعية، عبر مسحة وجودية ممزوجة بالتألم والخصومات، وهذه النظرة لا يمكن أن تحمل التوحيدي ما لا يطاق ولكنها خصوصيات استفهامية تخص كل من هم في البحث في الإنسان والتوحيدي واحد من أولئك. إن فعل التوحيدي  بإحراق كتبه ، يقابله احتراق نفسي(13) قوي الشدة، يدل على الجهد المبذول في تحقيق أهداف مؤلفاته، كما يقابله موقفا معرفيا أقل ما يقال عنه، أنه تجاوز عصره بقرون. ما أصعب وضع المثقف، عندما يرى بعض منه يحترق، ليس الاحتراق المادي فقط ، وإنما الصمت حيال تفعيل أفكاره " خذ التصريح ما يكون بيانا لك في التعريض "(14)

ألا يكفي فعلا داميا مثل هذا، دلالة على غربة فهجرة؟، أيوجد أكثر من هذا دافعا للهجرة والمتغرب؟ ، ليس لهجرة الأوطان وغربة أهلها ، وإنما هجرة الذات الواعية في مقابل تسطح غشي عقل الأخر .

وفي إشارة إلى الوعي في الوصول إلى الأهداف، وتعزيز هذا المؤشر يقول: " إنك لن تقف عند حدود هذه المرامي، وعلى عواقب هذه الأسامي، إلا بعد أن تخلع  نفسك من نفسك كما تخلع قميصك من جلدك، وكما تخلع جلدك من لحمك، وكما تخلع لحمك من عظمك ، وإنما قلت هذا لأن المراد عزيز والمرام بعيد، والفهم قاصر والهوى متناصر ، والقوة المعدة غائرة، والطبيعة الحاضرة حائرة، ... فإن لم تكسب هيئة لنفسك غير هذا الذي ورثته بمزاجك...لم تظفر بما يكون سببا لسرورك وابتهاجك، ... فأفطن لهذه العويصة التي هي إقبالك على نفسك واد بارك عن نفسك، فإن ظاهر هذا القول بحدث تناقضا ، ويورث صدودا ، وباطنه يحدث اتفاقا ويورث شهودا (15)

الفهم قاصر والهوى متناصر ، ومهارة الفطنة عسيرة ، وتهذيب النفس حيال ذلك ، يندرج في السهل الممتنع. لأن " العلم بلاء ، والجهل عناء ، والعمل رياء ، والقول داء والسكوت هباء ، ..."(16)  لأن العلم " يهوي بصاحبه إلى لج الفكر .... ولأن الجهل يقحم صاحبه في شعاب النكر ..." (17)

 ألم تر أن التوحيدي جمع العلم والجهل وفرق بينهما في خصائص تخص الإنسان بالدرجة الأولى، جمع بينهما بقوة العمل وسداد الرأي في القول ، وكلاهما يرتكز على النباهة المؤدية إلى الوعي والعكس صحيح .

المؤشر الثاني:

إن شكوى التوحيدي وتألمه إلا دليلا قاطعا وسؤالا عميقا وصمتا من نوع خاص، يرسم من خلاله ملامح الجهل وصوره المضطربة.فمن البديهي" أن يعبر  عن نفسيته وظروف حياته وصلاته مع أهل زمانه"(18) سواء في كتاب  الهوامل والشوامل، أو في كتاب   الصداقة والصديق ....وغيرهما.

  إن السؤال الفلسفي لدى التوحيدي  ركيزته منزعه الإنساني ، ونظرته للإنسان وتقييمه على أسس إنسانية : العقل المستنير ، والحرية والتحرر الباطني ، والموقف الجمالي ، والذوق الفني ، والسلوك القويم المتزن .

    إن ميل التوحيدي إلى النزعة الإنسانية كان مشروعا في مقابل واقع إنساني ميز وطبع القرن الرابع الهجري. ألم يكن لصاحب الإشارات ، والمقايسات ، أن بهجر الذات  ، أن يغترب ، وهو يشاهد عقل الإنسان وقد غلف ، وقلبه وقد استدار ، وأفكاره استبدلت  بمقاييس الهوى .

ضاقت بما رحبت:

    بذات المنطق السابق ، يمكننا الكلام عن هجرة الغريب ،كما خطها التوحيدي ، ففي الرسالة (يا ) ، يجيب التوحيدي على من سأله ، وطلب الإجابة عن مسألته ، في ذكر الغريب ، ومن هو الغريب " سألتني – رفق الله بك وعطف على قلبك  - أن أذكر لك الغريب ومحنه ، وأصف لك الغربة وعجائبها، وأمر في أضعاف ذلك  بأسرار لطيفة ، ومعان شريفة ، إما معرضا ، وإما مصرحا ، وإما مبعدا ، وإما مقربا .فكنت على أن أجيبك في ذلك .ثم أني وجدت في حالي شاغلا عنك ، وحائلا دونك ، ومفرقا بيني وبينك ، وكيف أخفض الكلام الآن وأرفع ، وما الذي أقول وأصنع ، وبماذا أصبر ، وعلى ماذا أجزع ؟ وعلى العلات التي وصفتها والفوارق التي سترتها ..."(19)

      إن إجابة التوحيدي التمهيدية تشكل في حد ذاتها ولادة عسيرة، ومحنة عجيبة، لمن عايش التجربة ، وليس لمن سمع أو رأى . المفردات المستعملة، مصفوفة مرصوصة دالة على ما تتضمنه الغربة من غرائب، ومن أسرار تشكل هاجسا رواد التوحيدي كثيرا، وعايشه طويلا، عندما يقول قول الواثق من نفسه "إن الغريب بحيث ما حطت ركائبه ذليل

وبد الغريب قصيرة ولسانه أبدا كليل والناس ينصر بعضهم     بعضا وناصره قليل"(20)

 

 يتداخل هذا النص مع نص أخر يورده التوحيدي في كتاب الصداقة والصديق، وممن للتوحيدي بالصديق، وأين الصديق ؟ وهو الذي يكرر رأي أرسطو في الصديق " إنسان هو أنت إلا أنه بالشخص غيرك "(21)، وهو الذي جمع ما كتب نثرا وشعرا حتى نهاية القرن الرابع الهجري ، مما يدل على أنه في ريب من وجود وحدوث هذه العاطفة الإنسانية. يقول:  " أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحدة،  قانعا بالوحدة ، معتادا للصمت ، ملازما للحيرة ، محتملا للأذى ، يائسا من جميع ما ترى ، متوقعا لما لا بد من حلوله(22)

   يتبين لنا من خلال  هذا النص ومن غيره من النصوص، هجرة الآخر وغربة  الذات، فلا مكان استوعبه، ولا زمان استغرقه، ولا نص حاوره، ولا إنسان استأنسه ، إلا محاورة الذات للانا . ففي سياق البحث عن التلازم بين الأنا والذات " يقول الإنسان حدثتني نفسي بكذا وكذا، كيف ذلك ؟ فإني أجد الإنسان ونفسه كجارين متلاصقين  يتلاقيان فيتحدثان، وبجتمعان فيتحاوران، ويدل هذا على بينونة بين الإنسان ونفسه "(23) حديث الإنسان مع نفسه ، محاورة الإنسان لذاته ، هما في الوقت ذاته، إقرار بغربة ، وتثبيت لهجرة الآخر ، وبناء  لصداقة عجيبة بتوكؤ عليها التوحيدي حين تضيق به    ولم لا تضيق بما رحبت ، على من ألقى السؤال المعرفي مشاعا ، عبر الهوامل . هذه هي هجرة المثقف، وهجرة العقل، وغربة المفكر، ليس في زمن التوحيدي فقط ،  وإنما في كل الأزمنة، حتى بالنسبة لعصرنا، مع اختلاف درجة الوعي بها .إن شعور التوحيدي، شعورا يتصف بالمأساوية ، حيال الوجود، فللحضور ذوق وللغربة والهجرة أذواق ، والتوحيدي ذاق الاثنين معا، حضور يكتنفه هجران، وعربة تمعن في منعطفاتها  وشباكها إن الهجرة والغربة كلاهما بالنسبة لرجل في حجم التوحيدي، يتعلقان بالبعد الحضاري، أي بالعقل وما أنتجه ، وهو الذي اختبره على امتداد حياة ، وصارع من أجل تثبيته .

قريب غريب:

   ويتكلم التوحيدي عن غربة قريب ، ضمن الإجابة التي قدمها ، وهي بمثابة هجرة ماكثة للأوطان، ليست هجرة متحركة يتخللها الاختيار القسري نحو جهة معينة وإنما هجرة ثابتة معزولة حركيا تقتضي الوجود واللاوجود في آن واحد يقول : " هذا وصف غريب نأى عن وطن بني بالماء والطين وبعد عن آلاف له عهدهم الخشونة واللين ، ولعله عاقرهم الكأس بين الغدران والرياض، واجتنى بعينه محاسن الحدق المرابض، ثم كان عاقبة ذلك كله إلى الذهاب والانقراض، -فأين أنت عن قريب قد طالت غربته في وطنه، وقلّ حضه ونصيبه من حبيبه وسكنه؟ وأين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان ، ولا طاقة به على الاستيطان؟  

   غربة الوطن، وأين لك من وطن تتنسم فيه رائحة تربته الطيبة، وتشفي غليل عطشك من هوائه. إن وحشة الأوطان تعتري كل غريب، وإمكانية إطفائها تتملك كل لبيب، فالعودة قائمة وهي باستطاعة كل إنسان، ولكن عن قريب غريب وهو في وطنه غريب.لا يمكن تفسير ذلك، إلا من خلال نظرة واقعية، وهي أن غربة الإنسان في وطنه تكون من خلال عدم التماثل الثقافي بين هذا الغريب وغيره من النا، فلم يستسيغوا أفكاره ، وإن فهموه لم يكن بإمكانهم  التدقيق والوصول إلى أهدافها.

وما عبارة التوحيدي الواردة في الهوامل والشوامل " الإنسان أشكل عليه الإنسان " إلا وجها من تلك الصورة الغامضة التي رسمها ، وفي هذه الحالة كان معرضا ، يصف ، وهو الواصف لحاله " ... إن نطق تطق حزنان منقطعا، وإن سكت سكت حيران مرتعدا، وإن قرب قرب  خاضعا ، وإن بعد بعد خاشعا، وإن ظهر ظهر ذليلا، وإن توارى عليلا، وإن طلب طلب واليأس غالب عليه، وإن أمسك أمسك والبلاء قاصد إليه، وإن أصيح أصبح حائل اللون من وساوس الفكر، وإن أمسى أمسى منتهب السر من هواتك الستر، وإن قال قال هائبا ، ..."(24)

  ما ترك التوحيدي، وصفا للغريب إلا قدمه ـ مما يدل على أنه كان يسبر غور أعماقه، وبصف في حاله، ويتبين لنا ذلك من مما سبق ، كما يتبين لنا من خلال كتاباته الأخرى، التي تفيد في أن اهتمامه بالإنسان، والعمل على التنظير له، وفق منطق إنساني قد اصطدم بالكثير من الصدمات سواء على المستوى الشخصي، أو على المستوى العام

 الغريب في غربته غريب :

       تعمق التوحيدي، في دهاليس الغربة ، فأدهش الغربة ذاتها ، وأبهر الغريب ، إحساسا وشعورا . عبر  فاختصر، واختصر فاقتصر على تجسيم الغربة ....بوطن يكون فيه القريب غريب، نافيا بذلك انتماء جفاء الأصدقاء للغربة " فأغرب الغرباء من صار غريبا "(25).  "... وقد قيل : الغريب من جفاه الحبيب . وأنا أقول : بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشريب ، بل الغريب من نودي من قريب، بل الغريب من هو في غربته غريب ، بل الغريب من ليس له نسيب ، بل الغريب من ليس له من الحق تصيب .

     لقد ساوى التوحيدي بين غربة الأوطان، والغريب الذي هو في غربته غريب، رص الكلمة بالمعنى، وكيف المعنى بالهجرة، فاستقام وصف المعاناة  لعالم الولوج فيه قسري ، والخروج منه مجهول . إن وسم لوحة متناسقة لمأساة، وخاصة مأساة من في وطنه غريب، يظهر عند التوحيدي في الانسياب اللغوي، فالمفردة تشرح ما قبلها وتمهد لما بعدها . فهو يعطينا " صورة صادقة وكاملة للغريب، لهذا فهو يمسك بريشته ليرسم لتا صورة فنية لملامح الغريب ومسلكه في الحياة...."(26)

    إن الحال الذي كان عليه التوحيدي ، يدمي القلوب  " ..تعلى نبكي على حال أحدثت هذه النفوة وأورثت هذه الجفوة "(27)  فكم من مفكر ومن مثقف هذا حاله، والفرق أن التوحيدي صرح في لوعة، وغبره كتم فاختلطت عليه المفاهيم ، سواء عن وعي أو عن غير وعي،  يكفي وصفا غريب في غربته  غريب، لأن معنى ذلك، غريب العقل والفعل، غريب في الحضور غريب في الغياب . لم يترك التوحيدي صفة ولا حال ولا مبتدأ ولا خبر ....إلا وخاطب به سائله  المجهول ، وهو خطاب موجه في هذه الحالة إلى كل من شعر بهذه الهجرة ، وهي نوع من الهجرة تجاوز التوحيدي من خلاله  الغربة ومفاهيمها المعتادة .

    من يقرأ الإشارات ويمعن النظر، يعيش مكابدة التوحيدي الغريب وهمومه، من أجل تثبيت الفكرة، وتسطير القلم. فخطابه لم يوجه إلى فئة من الناس، بل لقد حاول من خلال مؤلفاته الأخرى أن يجعل من الفلسفة ثقافة شعبية عامة. لقد عبر بحق عن معاناة مفكر، عن غربة مثقف عن هجرة متمرد. فتوجه للوجدان وللقلب، بعدما استعصى عليه الولوج إلى عقل مغلف بتسطح ثقافي مميز.

التوحيدي ووديعة الله:

  يكفي وصفا للغريب ، وبكفي السائل ثقل وديعة التوحيدي  عندما يقول : "أيها السائل عن الغريب ، أعمل واحدة ولا أقل منها ، وإذا أردت ذكر الحق فأنس ما سواه، وإذا أردت قربه فابعد عن ما عداه، وإذا أردت المكانة فدع ما تهواه لما تراه .... وبلك ، إلى متى تنخدع ، وعندك أنك خادع ، وإلى متى تظن أنك رابح ، وأنت خاسر ....."(28)

     تنبيه التوحيدي لغافل عن غفلته ، ولمتوهم عن أوهامه ، ولخاسر عن إفلاسه، يحمل أكثر من دلالة، عن الوعي والوعي الزائف، وعن السعادة والسعادة السلبية " ما أسعد من كان في صدره وديعة الله بالإيمان فحفظها حتى لا يسلبها منه أحد  ، أتدري ما هذه الوديعة ؟ هي والله وديعة رفيعة هي التي سبقت لك منه وأنت بدد ....أنت في ملكوت غيب الله ثابت في علم الله ، عطل من كل شيء  إلا من مشيئة الله ..... فما أسعدك أيها العبد ، فهذه العناية القديمة من ربك الكريم الذي نظر لك قبل أن تنظر لنفسك   ....يا هذا أحجر أنت ؟ فما أقسى قلبك .....هل يفعل الإنسان العاقل بعدوه ما تفعله أنت بروحك؟ لا ينفعك وإن كان شافيا ، ولا بنجع فيك نصح وإن كان كافيا  . هاهو التوحيدي يصل إلى وديعة الله ، بعد جولة الهجرة والغربة . فسعادة الإنسان إيمانه.

خاتمة :

  لم يتكلم التوحيدي في الإشارات إلا غربة ممزوجة بمرارة الهجرة ، فهو بقدر ما يعبر على نفسه بصدق  وأناة ، يعبر عن الأخر في لوعة وحسرة . إن غياب الوعي بالواقع لدى إنسان القرن الرابع الهجري ، جعل من أفكار التوحيدي تتجاوز عصره بقرون . فالوعي يظل غائبا مما يترك الإنسان يتعايش مع الغربة والهجرة .

      إن غموض الهدف من حياة الإنسان، بل من وجوده، يفسح المجال إلى الهجرة وإلى غربة يطول زمانها. فغربة التوحيدي مست شعور إنسان ذلك الحين ، ذلك الشعور الذي يتميز بعدم الاكتراث ما يحقق إنسانية الإنسان. صعب على مجتمع يغيب فيه الوعي بالوجود، ويصبح الوجود واللاوجود سيان لدى الأفراد والجماعات، لقد استجمع التوحيدي الأفكار فحاصرته الغربة، وبحث في حقيقة الإنسان وأسكب على بعض من أفكاره قبس استنهاض الوعي ، وكتب عن حال الغريب، وهي حاله.  ماذا لو تحقق هدف التوحيدي؟  بل هدف الفلاسفة الأدباء، في إرساء دعائم فلسفة إنسانية ، بحس فلسفي انتقادي لواقع همش العقل والفكر والجمال، وتمعن في التجاهل والإحباط، وخلق مبررات الخيبة بعد الخيبة. غربة التوحيدي هجرة مثقف مهما أولت هذه  الغربة ، وسيظل صاحب " البصائر والذخائر " والإشارات في غربته حاضرا ، وفي حضوره مثالا لواجهة ثقافية ، في الثقافة العربية الإسلامية . 

                          

--------------------------------------

المراجع :

1-، عادل العوا، الكلام والفلسفة ،  مطبعة جامعة دمشق ، الطبعة 2،  سنة 1964، ص 109.

2- أبو حيان التوحيدي  ، الإشارات الإلهية ، حققه وقدم له عبد الرحمان بدوي ، وكالة المطبوعات الكويت ، دار القلم بيروت – لبنان  ، الطبعة الأولى 1981 ، ص 49

3- المصدر نفسه ، ص 50.

4- محمد توفيق حسين، من مقدمة  المقابسات مطبعة الإرشاد بغداد 1970 ص 9 ،سبق ذكره.

5 ابراهيم زكرياء ، أبو حيان التوحيدي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، المؤسسة المصرية العامة ، دط، دت ص 41.

6-أدم ميتز، الحضارة العربية في القرن 4هـ، ترجمة محمد عبد الهادي  أو ريدة ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ، سنة 1957 ص424.

7- من مقدمة الصداقة والصديق ، تحقيق وتعليق  إبراهيم الكيلاني ، دار الفكر ، سوربا دمشق ، ط1 ، ستة 1964 ص18.

8-  أبو حيان التو حيدي،  البصائر والذخائر ، المجلد الأول، ج1 نحقيق وداد قاضي  ، دار صادر ، بيروت ، ط1  ، سنة 1988  ص 6 .

9- محمود إبراهيم،   أبو حيان التوحيدي في قضايا الإنسان واللغة والعلوم ،  الدار المتحدة للنشر ، سنة 1985 ص40.

10- أحمد الحوفي،  أبو حيان التوحيدي ، مكتبة النهضة ، القاهرة ، ط2 ، ستة 1964 ص 362.

11- من التصدير عبد الرحمان بدوي للإشارات الإلهية أبو حيان التوحيدي 1981 ص (له).

12- أبو حيان التوحيدي فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة ص 127.

13- أنظر ،  سلمان محمد سلمان الوابلي ، ال؛تراق النفسي  ومستوياته .... ، مركز البحوث التربوية والنفسية، مكة المكرمة 1995، ص 9 وما بعدها.

14- الإشارات الإلهية ، مص سبق ذكره، ص 50.

15- مص  نفسه، ص 78.

16-مص نفسه ، ص 120.

17- نفسه .

18- مقدمة الصداقة والصديق رسالة لأبي حيان التوحيدي تحقيق وتعليق إبراهيم اليكلاني، دار الفكر سورية دمشق ط1 19645 ص19.

19- الإشارات الإلهية   ص 112-113

20- الصداقة والصديق  ص 69 

21- مص  نفسه ،    ص 113

22-  نفسه   

 23- المقابسات، أبو حيان التوحيدي  ، تحقيق وتقديم محمد توفيق حسين ، مطبعة الإرشاد ، بغداد سنة 1970  ص 110

 24- الإشارات ... مص سبق ذكره، ص 113

25-نفسه،    ص 115

26- اشتعال الذات ، سمات التصوير الصوفي في كتاب الإشارات الإلهية  لأبي حيان التوحيدي ، محمد المسعودى  ، الانتشار العربي ، الطبع الأولى، بيروت لبنان ، سنة 2007، ص 183

   27- الإشارات الإلهية، مصدر سابق،  ص 114

 28-   نفسه  ، ص 117

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة