النساجة في توجان: عندما تحيك المرأة تفاصيل حياتها تشكيلات

 

 

المؤلف: د.عمر عيّاد

المؤسسة: جامعة تونس، دولة تونس

البريد الالكتروني: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

 

 

 

 

 

       تفنّن أهل توجان* منذ القدم في صناعة النّسيج فتنوّعت المنتوجات وتعدّدت، وتميّز حرفيّيها بنوعين من الإنتاج النسجي، أمّا الـأوّل فهو  صنف الملبوسات مثل "البخنوق" بأنواعه إضافة إلى العديد من المنسوجات الملبوسة الأخرى على غرار "الكتفية" و"البرنس" و"التعجيرة" أمّا الصنف الثاني فهو المفروشات مثل "المرقوم التوجاني".

في تنوع الثقافات تتجدد الرؤية الجمالية للموروث الحرفي وفي صدق القراءة البصرية للواقع تتعمق البساطة الظاهرة في هذا المنتج  ليعكس على سطحه كل ما تفرزه الشعوب من تصورات وأحلام وفلكلور وتراث وهوية حيث يحضر المزيج الواقعي والنفسي والاجتماعي متداخل الأبعاد. فكل ما يرسم فيه إنما هو فضاء لاختزال الأحاسيس والمعتقدات أين تصقل وتوزع مجددا مفعمة بدفق متنوع من الرؤى التي تنعكس على فهم كل متلقّ، ليحضر حس الحرفيّة  ورؤيتها في البحث الجمالي عن كل ما يعبر عن هوية شعبها وكل مميزاته التشكيلية والرمزية في جميع  أبعادها لتؤسس لجمال متفرد الحضور.

__________________________________

*"توجان" قرية جبلية تتبع إداريا ولاية قابس بالجنوب الشرقي التونسي و تقع على بعد 23 كم من مطماطة   و 27 كم من مدنين على مستوى الطريق الوطنية عدد 20 الرابطة بين مدنين و دوز مرورا بمطماطة القديمة. وكلمة "توجان" في الأمازيغية تعني عين ماء في بداية الجبل وهي قرية بربرية لها من العمر أكثر من  1500 سنة.

إنّ المنتج النسجيّ التوجانيّ يحمل في ملامحه مخزونا فنيا متنوعا حسا وجمالا وروحا ترشح به  الذاكرة والحرفة، جسّدتها رحلة الذاكرة ملونة التفاصيل ومختلفة المسارات والثقافات التي مرت بهذه الربوع لتخلف التنوع والصدام واللقاء الخالق للتفرد التعبيري والاختلاف التشكيلي ولتوثق لصورة زاخرة بالخطوط والألوان والأفكار والرؤى. كل ذلك ساعدنا على تحديد ملامح المنتج النسجيّ من خلال الألوان المضيئة المبرزة للجانب الوجداني والروحي المتداخل والمتفاعل مع الهوية الأمازيغية حيث يتجلى دور الصورة الظاهرة في التأثير  بملامح المنتج النسجي الكاشف للاختلافات الثقافية والفكرية وتنوع الإنسان، والحامل بين "رقماته "هاجس الرمز واللون. إن ّالمنتوج النسجي ّبسيط الملامح سهل الحضور شيق التفاصيل مثير لدهشة حالمة يعبر عن مشاعر شعوب قد مرت وولت، لذلك اتخذت النساجة التوجانية هذه البساطة العميقة فكرة وأسلوبا وبصمة، فكانت بارعة في تشكيل تلك الرموز بتراثها وذاكرتها فاستلهمت الأفكار والرؤى والواقع بكل جوانبه، ووظفت التفاصيل اليومية في تشكيل المنسوجة دون أن تتجاهل ما تحمله في ذاتها من ذكريات .

إن كلّ همّ النسّاجة التوجانية المحافظة على حرفة أجدادها التي عبّرت من خلالها عن روحها وانتمائها للأمكنة والأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل، فمنسوجتها غبارة عن "سجلٌ يدوّنٌ فيه شيءٌ قابعٌ فى تلافيف المخيال الجماعى، أي فى الذاكرة الجماعية الفاعلة، التى أبت إلا أن تحتفظ، رغم التطور وتعاقب الأزمنة والتجارب، بشيء من مكنونها، ترى فيه لغة هويتها."[1]  و لتنخرط من وراء ذلك في توظيف التعبير الفني التشكيلي  بدلالاته ومفاهيمه ورموزه التي من خلالها تقرّب الصورة الواقعية وتصل بها إلى لذة بصرية وانتشاء جمالي، فهي تجيد السيطرة على الفكرة واللون والصورة والتقنية بعقلانية متوازنة يظهر الجمال في حضور الألوان بين الشديدة الواضحة والأبعاد الضوئية التي تنعكس عليها ممّا يخلق تناغما بينها يضفي عليها صفاء وحضورا.

في كل منسوجة  توجانيّة تتجادل الأشكال والألوان مع حركة الخطوط بأسلوب حيوي ظاهر وفكري باطن كأنها تفكك نفسها وتفصح عن مشاعر مكتظة في عمق ذاتها تشكلت بأسلوب حسب المسار والدلالة البصرية التي تعكس الوجود والانتماء في سياقات رمزية الخفاء والتجلي، فالأشكال التي تقع خلف الألوان الظاهرة تتراءى كنوافذ مضيئة تختزن  رمزا فنيا أو عقائديا.

إنّ النساجة التوجانية تنشد الجمال في عملها الذي يدعو إلى  التأمل لاختلاف الملامح ولحضور الخصوصية والتنوع الثقافي، تتقن بثها في ألوان  تتراقص مع الأضواء فتوظف الدرجات اللونية  الحارة والرمادية والألوان الباردة وتضفي رمزية التعامل معها بدمج الخط و"الرقمة"*، حيث تحاول تركيز بساطة جمالية تعمق الحضور الذهني وتمازج بين الخيال والفكرة بين الحلم والرغبة لتتمكن من تسلق درجات الواقع دون الوقوع في خيبة المحاكاة والتكرار وتضيف عليه بصمتها الخاصة وإدراكها من خلال تجربتها.

 تبقى كل التأويلات والتحليلات مجرد مقاربات تُقدّم فيها تصورات حول مفهوم أو إنتاج حرفي أو فني، لما فيه من خصوصية تركيبية هندسية وتكوينات زخرفية تذوب فيها الحدود بين وصف الفنان وخصوصياته ووصف الحرفي وبصماته من خلال حسن ابتكار التشكيلات ودقة الإتقان في الصّنع لتحضر روح الفنان بحضور المفاهيم الفنية التشكيلية مثل التكرار والفراغ والملء والتناظر والاحتواء وغيرها من المفاهيم الظّاهرة المستترة والاعتماد على الألوان وإعطائها أهمية كبيرة من وراء اعتقادها بأهمية هذا العنصر من حيث دلالاته ووظائفه وتأثيراته الكبيرة على المتقبل الواعي واللاّواعي بهذه المسألة.

__________________________

 *"الرقمة":Motif  

إنّ الأمر لم يعد مجرّد أثر حرفي صناعي ومنتوج وظيفي ضروري بل هو كيان يخاطب دون أن يرد ويتقبل دون أن يرفض ويتحمل دون أن يضجر، فهو ملاذ المرأة التوجانية النساجة بالدرجة الأولى ليمنحها ما قد فقدته، لأنّه حبل النجاة بالنسبة إليها من واقع يجعلها مكبلة ومثقلة بتهميش ومسؤوليات، إنّها تسعى إلى الوعي بذاتها، ومن هنا تبرز أهمية هذا المنشط عند سكّان هذه القرية خاصة. إضافة إلى

كون النسيج إرثا ثمينا تركه الأجداد، إنّه ثمين من حيث جانبه المادي وكذلك من حيث هو دليل تاريخي على جذور سكاّن هذه القرية الجبلية، فتحضر العلامة الرّامزة لحضارة كاملة كالحضارة الأمازيغية، وهي عبارة عن تركيب هندسي يعتمد على المثلث ويشكّل سلسلة ترسم رمزا من خلال تتاليه.

أما الرمز فهو "صورة تناظريّة تربط بين وحدات مجرّدة وأخرى محسوسة تتناوب فيها الثانية عن الأولى وتقوم مقامها وذلك لتسير إلى الدلالات التي يمكن أن تتسرّب في غفلة منا إلى الكلمات والأشياء والطقوس والحركات، إنه فعلٌ يمنح الأشياء أبعادا تُخرجها من دائرة الوظيفة والاستعمال إلى ما يُشكل عُمقا دلاليا يحولها إلى رموز لحالات إنسانية، فالرمز يعبر عن ميل الإنسان الشديد إلى تحويل الحقائق والأحكام المجردة إلى كيانات مجسدة من خلال أشياء أو سلوكيات محسوسة، فالهلال رمز الإسلام والخمسة اتقاء للحسد من العين وهكذا دواليك، ووفق هذه الصيرورة فان كل شيء مادي يُمكن أن يصبح رمزا لحالة ما وفق شروط بعينها من خلال تحديد الرابط الدلالي الذي يمكنه من الانتقال من العنصر الرامز إلى العنصر المرموز له"[2].

إنّ الاعتماد يكاد يكون كليا في تكوينات النساجة التوجانية على الشكل الهندسي أو "صفة الرمزية الهندسية. فهم يرسمون أشكالا هندسية يرمزون بها إلى معتقدات دينية أو لغرض التزيين..."[3] لأن  هذه الصفة ترتكز على القيس بالدرجة الأولى وهو ما يسهّل عملية الإعادة دون إحداث خلل كبير في عملية التكرار، خاصة وأنها تعتمد على شكل واحد وإذا ما حدث اختلاف واضح في عملية التكرار - ونتحدث هنا عن اختلاف ناجم عن خطأ- فإن المنسوجة  تفقد جماليتها وتصبح ملغاة ولا تُعرض في المغازات الجبلية الموجودة في أعلى قمة جبل توجان، وبالتالي لا تباع، فيحتاج الأمر إلى حسن إنجاز وصنع. ومن هنا تحضر حرفية الحرفية وصنعة الصانعة التوجانية، ولا يتحقق هذا الأمر إلاّ إذا توفّرت عدّة عناصر منها آلة النسيج المصنوعة من خشب والموثقة في حائط الغرفة من عدة زوايا لكي لا يختلّ توازنها وتتحمل عملية الضّرب والتّرصيف والهزّ والحطّ و حِزَمِ الصوف الملونة الموضوعة فوق عارضة المنسج العليا، لتنطلق عملية ولادة المنسوجة بداية من العارضة السفلى منه.(الصورة (1)) 

تولد من وراء العملية الإنشائية للمنسوجة التوجانية رغبات وطموحات النساجة، أين "أُخذ من المنسوج عامّة ومن الزربية خاصّة سجلا يُدوّن فيه ولو بشكل لا شعوري شيئا عميقا قابعا في تلاَبيب خياله الجماعي أي في الذاكرة الجماعية الفاعلة٬ التي أبتْ إلاّ أن تحتفظ  رغم التطوّر وتعاقب الأزمنة والتجارب على شيءٍ من مُكنونها ترى فيه لغة هويته "[4]. فتُسكنهما فضاء منسوجاتها بغضّ النّظر عن نوعيّاتها، لتحصل تلك اللذة المفقودة وتكون ذات خصوصيات عند المرأة النساجة، وتتصل مع الآخر برغبة منها وبحرية تصرف خاص يشعرها بذاتها الفاعلة، الآمرة والنّاهية وليست تلك المفعول بها وفيها لتحضر اللذة من خلال فعل التكرار والحياة والموت والبداية والنهاية، فكلّ منسوجة لها لذّة خاصة وكل فعل نسجي مبني على مفاهيم تبنى على الإعادة وتضفي إلى التغير أين تحضر المعاودة والاختلاف في المنسوجة التوجانية وتعرض صورة فنية تخفي إرث بشري يعيش بين  سكّان هذه القرية الجبلية ومعهم.

إنّ التكرار كمفهوم بنت عليه النساجة التوجانية مسألة تأثيث فضاء المنسوجة كان عاملا دفع قاطرة الابتكار والإنتاج والتنويع بأقل العناصر الهندسية وأحالنا على مفهوم الاختلاف، لتحصل هذه النتيجة الهائلة والثرية بواسطة التقشف في الشكل، ويفرض هذين المفهومين نفسهما فهما وحسب رأي "جيل ديلوز" مفهومان لا ينفصلان ليحقق الأول الثاني ويكون الثاني نتيجة طبيعية للمفهوم الأول.

إن الأمر مجرد مقاربة لنسيج ثري بمنطقة فقيرة، تبحث عن الخلق من خلال التكرار والمعاودة، هذين المصطلحين المعاصرين الذين استلهم منهما العديد من الفنانين الغربيين والعرب على حدّ السواء    و أسّسوا بهما العديد من الأعمال الفنية التشكيلية بأساليب مختلفة، ليبقى الأسلوب المنتهج من طرف النساجة التوجانية مميزا وخاصا حيث وظفت التكرار والاختلاف في التشكيلي والوظيفي فتتعدد بذلك أشكال- نتحدث هنا عن الصنف- المنسوج التوجاني ، حيث نجد تكرار نفس الأسلوب والتكوينات على المستوى التشكيلي بينها، ويحضر الاختلاف في مستوى الوظيفة بين الملبوس والمفروش وكذلك من خلال الألوان والتراكيب الهندسية المشكلة.

 تحضر العلاقة والرغبة بين الصانعة الفنانة وعملها ليُسْتَخلص ذلك من صميم الخبرات الشخصية والإرث النسيجي الخاص، فيكون المنتج التوجاني رمزا يعبّر عن حالات وجدانية، مثله في ذلك كمثل اللوحات الفنية والتشكيلية، وتقحم فيه بعض المعاني العاطفية والعقائدية والمسائل التقنية في الأصباغ الكاسية لخيوط الصوف أو من بعض الحركات المواكبة للفعل النسيجي والعلاقات بين أنا النساجة ومجال فعلها.

إنّ الإنسان منذ القِدم  كان عارفا بالمسألة الجمالية ونشوة نشأة العمل وعبّر عنها بطرق صريحة واضحة، ليرجى من ذلك النفع الجمالي والوظيفي وتكون المنسوجة مبدأ الفن والابتكار والخلق، "من هنا يكون فعل الحياكة بمثابة الفعل الإبداعي والإنشائي، وعاملا من عوامل البعث للوجود، من خلال العملية الوظيفية التي تتميز بالذهاب والإياب بين الخيط واليد، والعكس صحيح أيضا٬ فالمنسوجة لا تقتصر على الدور الجمالي والإستاطيقي٬ إذ تتضمن أبعادا أخرى أيضا منها البعد الأنطولوجي وحتى الصوفي..."[5]

فالجمال إدراك و فعل ينعش الحياة في صورها الثلاث، العاطفة والعقل والإرادة، وهي مسائل موجودة و بقوة في حياة النساجة التوجانية، إذ تسكن عواطفها وأحاسيسها ورغباتها في المنسوجة وبين أطراف المنسج وتعمل بعقلها من خلال تكوين تراكيبها الهندسية واختياراتها اللّونية  ليُكسى هذا الفعل  بإرادة قوية نحو الفعل والتفاعل والإنجاز إثباتا للذات، وتتحول من ذات مفعول فيها إلى ذات فاعلة راغبة في التأثير عوض التأثّر وباحثة عن الآخر والخالقة له، لتكون هذه المرأة جديرة بالاهتمام نظرا لحفاظها على هويتها ورغبتها في التجدّد والخلق والتجاوز.

إن السؤال المتعلق ببنية اللغة التعبيرية في المنسوجة التوجانية، يمثّل نوعا من الشغف الوصفي بالمفردات البصرية الموروثة والمتداولة شعبيا كالرموز وإشارات وعلامات دينية وسحرية، "فاستحضار الروّحانيّات يهدف إلى خلق بِنيّة ذهنيّة مطمئنّة، تمكن الفرد والجماعة من إيجاد توازن عاطفي وجداني واجتماعي، فتظهر الروحانيات والوجدانيات فى البنى الاجتماعية، وتمكنها من الاشتغال وتحقيق الاستمرارية ".[6]  

وكما نرى فإن تأصيل الفعل الجمالي في المنتج النسجي التوجاني نوعا من الواجب الملزم ثقافيا و فنيا، بسبب مستويات أدائه التعبيري و الفني، وخضوعه لمبادئ الجمالية وأسسها ، وهو ما ألقى بظلال أسئلة  تمحورت حول قدرتنا على فهم قيمة الرمز و الرسم مع الإيحاء الجمالي في المنسوجة التوجانية ، المتمثل بالخط والزخرفة و اللون و الضوء...، فإن اشتباك هذه العناصر الفنية  في المنسوجة  بالرغبة الملحّة في صياغة منتج نسجي ذو هوية خاصة بهذه الربوع  قد وضع التجربة النسجية أمام حتمية الاقتداء بالسلف لتصير هذه الحتمية في ما بعد نوعا من القدر الملهم  والقابل للتأويل والتأويل المضاد.

الأمر الذي يجعل تلمّس الطريق إلى لغة تشكيلية في المنسوجة التوجانية ، لغة ذات ملامح واضحة يغلب عليها الرمز واللون والضوء، أين برز اللّون بحدة فيها إضافة إلى الأشكال والتراكيب الحادة والتّعبير الخطي،" إن الألوان الحادة تظهر أوضح في أشكال حادة"[7]، فاللّون هو حقل الرّمز بلا منازع، وهـــــــو"لدى العلماء ذبذبة ضوئية أو بالأحرى هو الإحساس الذي ينتاب العين من تلك الذبذبة، إنه على حد قول أفلاطون تقاطر متناسب للصور في العين، وهو حسّي، ولذلك فكثيرا ما لازم اللّون الصورة كما لازم الرّمز اللون."[8]

 كما  أن عناصر الهوية يمكن اختزالها في جدول للعلامات الخطية، فككت النساجة في توجان ما تيسر بين يديها من مفردات إرث نسجي محلي وصارت تبحث في تفاصيل تلك التكوينات لاستخراج نسب جمالي جماعي، بالمعنى الذي يعيد ترميم  قاعدة تؤسس لهوية المنسوجة الامازيغية بهذه الربوع وصيانتها، وهي القاعدة التي لم تكن راسخة بقوة في أوقات سابقة، غير أنها تنامت بعد أن تعرّض النسيج التوجاني  للإهمال والإنكار بسبب نظرة دونية، والحال انه حرفة  تمزج بين الشكلي واللاشكلي بعفوية مقيدة بأسبابها، كانت بمثابة المصفاة لكل ما يتسرب من قيم جمالية  قد ظهرت في الصور النهائية لهذا المنتج، التي لاتتوقف عند حدود التماس الاستعراضي بين ما هو حرفي  وما هو فني وبين التراثي والمعاصر، تكون من خلاله عين المتلقي الدارس مرجعا لتأويل المنتج البصرية النسجي، ما يُرى منه وما لا يُرى. غير أن وفي هذه المنطقة بالذات يجب التصرّف بحذر وشعور صادق بالمسؤولية أمام إرث حرفي مثقل بالخصوصية والهوية أين يجب أن ندرك في وقت نفسه أن للمنتج النسجي التوجاني  لغة خاصة  تصلح للوصف واستدعاء المعتقدات، ذلك انها - أي اللغة التشكيلية- لا يمكنها ان تفلت من هيمنة الحكاية  والمعتقد والثقافة، حيث استلهمت المنسوجة أشكالها من معانيها لذلك لم تكن لغتها وصفية، بقدر ما كانت بحثا في عجينة المادة التاريخية التي لا تزال تشكل مساحة عظيمة من وجود الأمازيغ في هذه المنطقة .

وكما نرى فإن تجارب مهمة في المنسوج التوجاني  المعاصر قد ولدت من رحم تلك الخصوصيات ومن العودة إلى المنتج النسجي  التقليدي في كل لحظة وهو ما تفعله النساجة التوجانية عادة حين يتعلق الأمر بمفهوم الأصالة والهوية  وهي مفاهيم غالبا ما أدّت إلى الرفع من قيمة اللغة التشكيلية وقوة الانتماء،  لتستسلم النسّاجة التوجانيّة  في النهاية للأشكال وهو ما جعل لغتها التشكيلية  ترتقي لتدخل في إطار ما هو جمالي. وتنتقل بفعلها إلى رحاب طقس مختلف له علاقة بطقس الإرث النسجي في توجان لتكتشف النساجة  أن كل خط تلقيه على سطح المنسوجة إنما هو صورة عن هذا الإرث، لذلك حرصت على أن تحمل خطوطها رسائل ورموز دالة على هوية مثقلة  بالأدعية والاشكال التجريدية، حيث يحضر ذلك جليا في الرسم ولغة الإيحاء في المنسوجة التوجانية، وهي لغة خاصة ومشتركة. 

علينا أن نجازف لنصل إلى الصلة الخفية التي تربط بين كل هذه الخصوصيات وما مدى نسب التفاعل والتعايش بينها لغاية فهم العلامات والرموز الكاسية للمنسوجة التوجانية وفهم ما يُرسم عليها، فقد انتحلت نساجة هذه المنطقة  صفة المزوّق، لتخلق لنفسها لحظة استقلال في رسوماتها ولو كان استقلالا نسبيا، وتعلن في مرات عدة عن ولادة رقمة جديدة، وتكون هذه الاضافة عونا للعبور إلى منطقة أخرى من الإبداع والابتكار، فقد أضافت بعض الزخارف المحافظة على نفس الأشكال، والتي زادت في مساحة "الوشمة"، على غرار "وشمة عزيزة" وتشير التسمية إلى صاحبة هذه الإضافة وهي نساجة توجانية أمازيغية، التي أدخلت إلى فضاء "المرقوم" شريطا آخر مزخرفا بشكل المثلث،" وشمة عزيزة (الصورة (2)) 

 مع التشبث بما انطوت عليه المنسوجة التوجانية من قيم جمالية لا يزال الجزء الأكبر منها مطمورا على المستوى النظري. ولكن إذا ما ألقينا نظرة شاسعة على هذا المنتج الآن سنرى أن السلوك الإنشائي عند النساجة التوجانية قائم على الحفاظ واستعارة الوحدات التراثية والفلكلورية في مجال صياغة لغة بصرية مشتركة في كل المنتج النسجي تصنعه، حيث تُصنع المنسوجة في مناخ طقوسي تراثي حكائي، تغلب عليه الوصفات الجاهزة شكليا وتقنيا.

ليس غريبا أن ينتمي المنتج النسجي التوجاني  في خواتمه إلى نوع من الفن بأيادي حرفية، ذلك لأنه يرتكز على الكثير من مكونات الفن التشكيلي وعناصره. فالحرفيات التوجانيات مثلا، (لنقل معظمهن) يرتبطن اليوم بمزاج شعبي خفي و يدركن  ما يفعلن  و يعلمن العديد من العناصر التشكيلية، من نوعية الخط وأسماء الألوان ومفهومي الشكل والخلفية حيث يطلق عليها مفهوم حرفي بحت وهو "الفراش والوشمة" فالفراش هو الخلفية بلونها الواحد، أحمرا كان أو أي لون آخر، والوشمة هي الأشكال والزخارف، ولا نبالغ إذا ما قلنا إن الحرفية التوجانية صار عندها وعي فني بصري إستعاري، موروث ومبتكر. فقد "سميت في الغرب قبل عصر النهضة الايطالية وطيلة القرون الوسطى، مجموعة الفنون كالرسم والنحت والحفر بالصنائع أو الحرف الفنية أو الفنون، من حيث هي تقنيات مختصّة مثلها مثل بقية الصنائع والحرف الفنية الأخرى المختلفة، كالصناعة، النسيج، صناعة الورق، النجارة، الحدادة...وكل شخص يتعاطى نوعا من أنواع هذه الفنون يسمّى حرفيا"[9].

تعود بنا النساجة التوجانية  إلى عالم المفردات الجمالية المتاحة،  فقد صارت ملمة بمهارات تقنية تنتمي إلى الدرس الفني الأكاديمي، لتلتقط الحرفية المفردة من محيطها الثقافي المادي، وتعيد إنجازها بخبرتها وإمكاناتها التقنية.

ففي استعارة مفردات تراثية وفلكلورية والحفاظ عليها والتصرف الجزئي فيها إنما هو باب لحداثة أصيلة، فهي تعتقد من وجهة نظرها أن تراثها النسجي لا يتطلب العديد من المحاولات لـ"عصرنته" ففيه ما يكفيه من الجماليات المحافظة على موقعه الذي كان ولا يزال رفيعا، لا يزال الجمال الذي تقترحه آثار أجدادها النسجية في قرية توجان وغيرها من القرى المجاورة  مثقلا بالمفردات و المعاني.

في توجان ورثت النساجة تقنيات النسج عن أجدادها مع الوصية على أن تعلم الأجيال الأخرى وهو واجب وضرورة للحفاظ لا فقط على منتج مادي بل وأيضا للحفاظ على هوية وتقليد قديمين، كانت لغة الرمز فيه من أهم الألغاز التي من الصعب  الحصول على مفاتيحها، فقد توزّعت لغته على منطقتين شكلية ولا شكلية بتفاوت كبير طبعا، فتتخذ من خلفه الحياة صورة مشفرة، فـ"الرقمة" وحدها يمكنها أن تخلق عالما فذا، فهي في حقيقتها حديقة الحواس، وفي الوقت نفسه هي الشاهد على قدرة الحدس في التقاط ثمرة تجليها النهائية.

لقد كان هناك دائما نوع من الفخر ونبرة الاعتزاز من قبل النساجة التوجانية بارثها النسجي، إذ يمكن أن تصل فيه الخرافة والمعتقد والثقافة إلى عناصر تشكيلية وتزيينية، يشعر بهيمنتها كل متلقّ، ففضاء المنسوجة هو فضاء سميولوجي، تتحول فيه الأشياء برمتها إلى جملة من المعاني والعلامات. إنّه مجال تواصل وحوافز ومجال علامات ورموز ومعاني وإشارات..."[10]

 لطالما استلهت النساجة في توجان أشكالها من محيطها، باعتباره محيط  تعبيري، لينم ذلك عن سلوك بصري وأيضا على دربة وخبرة لدى النساجة، من حيث كونها العين التي ترى وتتخيل وتبعث الأشكال من واقع مرئي، إضافة إلى الخرافة بكل امتداداتها التصويرية المتخيلة والتي تحل محل الواقع أحيانا، بل وتتجاوزه . لذلك فإن الشكل يلعب دورا بغض النظر عن حجمه على سطح المنسوجة، لا بمعنى أنه يسد مضطرا نقصا بل بمرافقته الحالة النسجية إلى خواتمها، باعتباره راويا وراسما، فالشكل هو جزء من كلّ على مساحة المنسوجة التوجانية إضافة إلى اللون ودوره الكبير، "واللون أحد أبرز العناصر الجمالية في الفنون لذ يشكل حضورا واسعا يمكن أن يغير مسار الشكل الإبداعي سلبا أو إيجابا"[11]، ليمكن لهذه العناصر أن ترتقي بالمنسوجة  إلى مصاف الأيقونة، أين لا تجمع أشكالها ورموزها بين الواقعي والأسطوري فحسب بل تسير بالاثنين في اتجاه مشترك، وتحضر رمزية الأرضي والسماوي في الوقت نفسه من خلال شكل المثلث، فعند اتجاه قمته إلى الأسفل يدل على الأرضي أين الجسد والواقع والعكس يدل على السماوي أين الإله والروح، كون شكل المثلث عنصر اتصال بين الواقعي والروحي، لذلك كانت النساجة التوجانية أكثر حرصا من الآخرين على أن تكون للشكل لغته الخاصة والمستقلة المؤسسة داخل المنسوجة عالمها الاشتقاقي والدلالي الفذ. وإن نظرنا لعثرنا فيها ما يثني على الطبيعة، كونها المعجزة التي ينبعث الشكل منها ومن خلال الصلة بها، وبهذا الثناء تكون لغة الطبيعة والحكاية والموروث الواهبة "للرقمة" لغة حضورها التشكيلي. حيث كانت النساجة التوجانية سخية دائما سواء في علاقتها بالطبيعة أو مع تاريخ المنتج النسجي لديها، و يحضر ذلك جليا في فضاء منسوجتها المكتظ بالأشكال والمرتب في البناء حيث لا تقبل أصابعها الفوضى.

                                       

تونس النساجة في توجان

 


 --------------------------------------------------

[2] أحمد مصطفى. ومحمد عبد الكريم عابد. "تبابن الفكر السيميوطيقي للعلامة والرمز عند تصميم الصيغ البصرية للفن التشكيلي". 2010. ص8 ..

[3]  محمد أبو ريان. فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة. دار المعرفة الجامعية. الاسكندرية. مصر.1889. ص. 223.

[4] عبد الرحمان أيوب." الحرف التقليدية ومواترة حذق المهارات". الحياة الثقافية. ٬ تونس. أفريل 2008 . ص3.

[5]  حمادي الدليمي. المفروشات التونسية. شركة بريما. تونس. 2010.  ص.159.

[6] أحمد خواجة. الذاكرة الجماعية والتحولات الاجتماعية من مرآة الاغنية الشعبية. سلسلة أضواء. تونس. 2008. ص. 75.

[7]  إبراهيمالدملخي. الألوان نظريا وعمليا. الطبعة الأولى. مطبعة الكندي. حلب. سوريا. 1983. ص. 51.

[8] محمد محسن الزارعي. الإبداع الفني وفضاءات التواصلية. اصدارات المعهد العالي للفنون والحرف بقابس. تونس. 2003. ص. 44.

[9] سامي بن عامر. الفنون الجميلة الاصطلاح وموقعه في الفكر الحديث. مركز النشر الجامعي. تونس. 2001. ص13.

[10] محمد محسن الزارعي. الابداع الفني والفضاءات التواصلية. فصل. "الفضاء التواصلي. فضاء هيمنة أم فضاء ابداع وترفيه". إصدارات المعهد العالي للفنون والحرف بقابس. ISBN. قابس. تونس. 2003.  ص. 9.

[11]  علي إسماعيل السامرائي. اللون ودلالته ا لموضوعية والفنية في شعر ا لأندلسي. د ار غيداء. عمان. الأردن. الطبعة الأولى 2008. ص. 14

فلسفة و ثقافة

علوم اجتماعية

علوم انسانية

أدب و ترجمة